وأما كلام القاضي أبو بكر الباقلاني في هذا فقد تكلم عليه بكلام كثير ودرر نفيسة جدًا في كتابه "الانتصار للقرآن"، وسأقتطف هنا بعضًا من كلامه في ذلك: ١ - قال: «عبد الله بن مسعود لم يقل قط: إنهما ليستا بقرآن، ولا حُفظ عليه في ذلك حرف واحدٌ، وإنما حكّهما وأسقطهما من مصحفه لعلل وتأويلاتٍ، سنذكرها فيما بعد إن شاء الله». الانتصار للقرآن للقاضي أبي بكر الباقلاني (١/ ٦١). ٢ - وقال أيضًا: «وكذلك قد يمكن ابن مسعود اعتقد أن المعوذتين من القرآن الذي لا يجوز إثبات رسمه في المصحف، إما لظنه أنه منسوخ أو لغير ذلك من العلل». المصدر السابق (١/ ١٠٠). ٣ - وقال أيضًا: «وإنما اختلفوا في إثباتها في المصحف، وكان عبد الله بن مسعود لا يرى ذلك؛ لأنه لم يكن عنده سنة فيهما، فأما أن ينكر كونها قرآنًا فذلك باطل». المصدر السابق (١/ ٢٦٤). ٤ - وقال أيضًا: «أما دعوى من ادعى أن عبد الله بن مسعود أنكر أن تكون المعوذتان قرآنًا منزلًا من عند الله تعالى وجحد ذلك فإنها دعوى تدل على جهل من ظن صحتها وغباوته وشدة بعده عن التحصيل، وعلى بهت من عرف حال المعوذتين وحال عبد الله وسائر الصحابة؛ لأن كل عاقل سليم الحسن يعلم أن عبد الله لم يجحد المعوذتين ولا أنكرهما، ولا دفع أن يكون النبي صلى الله عليه تلاهما على الأمة ... وكيف يمكن عبد الله ابن مسعود أو غيره من الصحابة جحد ذلك وإنكاره، وذلك مما قد أعلنه تلاوة الرسول لها وإخباره بنزولها، أو واحدًا ممن خبّر بذلك وجاءته الأخبار من كل طريق وناحية مجيئًا لا يمكن معه الشك في ذلك؟ ... وإذا كان ذلك كذلك بأن عبد الله بن مسعود لا يجوز منه مع عقله وتمييزه وجريان التكليف عليه أن يحمل نفسه على جحد المعوذتين وإنكار نزولهما وأن الله تعالى أوحى بهما إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -. ومما يوضح ذلك أيضًا ويبينه: أنه لو كان عبد الله قد جحد المعوذتين وأنكرهما مع ظهور أمرهما وإقرار جميع الصحابة بهما لم يكن بد من أن يدعوه داع إلى ذلك وأن يكون هناك سبب يعتد عليه، ولو كان هناك سبب حداه على ذلك وحركه لخلاف فيه لوجب في موضوع العادة أن يحتج به ويذكره ويعتد به، ويبدي ويكثر اعتذاره له وتعويله عليه، ولكان لا بد أيضًا في مقتضى العادة من ظهور ذلك عنه وانتشاره وحصول العلم به إذا كان خلافا في أمر عظيم وخطر جسيم». المصدر السابق (١/ ٣٠١ - ٣٠٢). ٥ - وقال أيضًا: «وفي بعض هذه الجملة دلالة باهرة واضحة على أن هذه الأخبار متكذبة على عبد الله بن مسعود لا أصل لها، أو محمولة متأولة على ما قلناه دون الجحد والإنكار منه لكونهما قرآنًا، وأنه لا خلاف بين سلف الأمة في كون المعوذتين قرآنًا منزلًا وكلامًا لله تعالى، وأن النقل لهما والعلم بهما جارٍ مجرى نقل جميع القرآن في الظهور والانتشار وارتفاع الريب في ذلك والنزاع». المصدر السابق (١/ ٣٢٩ - ٣٣٠). وانظر بقية كلامه وكلام آخر كثير له في كتابه: الانتصار للقرآن؛ فإنه نفيس جدًا في هذا الباب. وأما القاضي عياض فقد قال: «ويحمل أيضًا ما روى من إسقاط المعوذتين من مصحفه على: أنه اعتقد أنه لا يلزمه أن يكتب كل ما كان من القرآن، وإنما يكتب منه ما كان له فيه غرض، وكأنَّ المعوذتين لقصرهما وكثرة دورهما في الصلاة والتعوَّذ بهما عند سائر الناس اشتهرت، فذلك اشتهار يستغنى معه عن إثبات ذلك في المصحف». إثبات المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (٣/ ٢٠١). (٢) فتح الباري لابن حجر (٨/ ٧٤٣).