للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال ابن القيم في كتابه القيم "حادي الأرواح": «فصل: وهاهنا أمر يجب التنبيه عليه، وهو: أن الجنة إنما تدخل برحمة الله تعالى، وليس عمل العبد مستقلًا بدخولها وإن كان سببًا، ولهذا أثبت الله تعالى دخولها بالأعمال في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) ونفى رسول الله دخولها بالأعمال بقوله: (لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ). ولا تنافي بين الأمرين؛ لوجهين:

أحدهما: ما ذكره سفيان وغيره قال: «النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ بِعَفْوِ (١) اللَّهِ، وَدُخُولُ الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِهِ، وَانْقِسَامُ (٢) الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ بِالْأَعْمَالِ».

ويدل على هذا: حديث أبي هريرة -الذي سيأتي إن شاء الله تعالى-: (أَنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا نَزَلُوا فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ) (٣). رواه الترمذي.

والثاني: أن الباء التي نفت الدخول هي "باء المعاوضة" التي يكون فيها أحد العوضين مقابلًا للآخر، والباء التي أثبتت الدخول هي "باء السببية" التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره وأن لم يكن مستقلًا بحصوله. وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الأمرين بقوله: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَنْجُوَ بِعَمَلِهِ. قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟! قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ) (٤).

ومن عرف الله تعالى وشهد مشهد حقه عليه ومشهد تقصيره وذنوبه وأبصر هذين المشهدين بقلبه عرف ذلك وجزم به. والله - سبحانه وتعالى - المستعان» (٥).

والله أعلم.


(١) في حادي الأرواح: يفعر. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(٢) في حادي الأرواح: واقتسام. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(٣) سنن ابن ماجة، كتاب الزهد، باب صفة الجنة (٢/ ١٤٥٠)، رقم (٤٣٣٦)، وسنن الترمذي، أبواب صفة الجنة، باب ما جاء في سوق الجنة (٤/ ٦٨٥)، رقم (٢٥٤٩). وقال الترمذي: «غريب». وقال الألباني: «ضعيف». ضعيف سنن ابن ماجة للألباني (ص:٣٦٣)، رقم (٥٠٠١).
(٤) عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لا يُدْخِلُ أَحَدًا الجَنَّةَ عَمَلُهُ. قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: وَلا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ). صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (٨/ ٩٨ - ٩٩)، رقم (٦٤٦٧)، وصحيح مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (٤/ ٢١٧١)، رقم (٢٨١٨).
(٥) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم (ص:٨٧ - ٨٨).

<<  <   >  >>