للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وذهب جماعة من أهل التحقيق والنظر من الفقهاء والمتكلمين من أئمتنا إلى: عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر، وأن منصب النبوة يجل عن مواقعها وعن مخالفة الله تعالى عمدًا. وتكلموا على الآيات والأحاديث الواردة في ذلك وتأولوها، وأن ما ذكر عنهم من ذلك إنما هو فيما كان منهم على تأويل أو سهو أو مِن إذن من الله تعالى في أشياء أشفقوا من المؤاخذة بها وأشياء منهم قبل النبوة. وهذا المذهب هو الحق» (١).

وجواب آخر ذكره الشوكاني، حيث قال: «فإن قلت: فما تقول فيما ورد في القرآن الكريم منسوبًا إلى جماعة من الأنبياء وأولهم أبونا آدم - عليه السلام -، فإن الله يقول: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١)} [طه:١٢١]؟ قلت: قد قدمنا وقوع الإجماع على امتناع الكبائر منهم بعد النبوة، فلا بد من تأويل ذلك بما يخرجه عن ظاهره بوجه من الوجوه.

وهكذا يُحمل ما وقع من إبراهيم - عليه السلام - من قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)} [الصافات:٨٩]، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء:٦٣]، وقوله في سارة: (إنها أخته) (٢)، على ما يخرجه عن محض الكذب؛ لوقوع الإجماع على امتناعه منهم بعد النبوة.

وهكذا في قوله - سبحانه وتعالى - في يونس - عليه السلام -: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:٨٧]، لا بد من تأويله بما يُخرجه عن ظاهره. وهكذا ما فعله أولاد يعقوب بأخيهم يوسف.

وهكذا يُحمل ما ورد عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه: (كان يستغفر الله في كل يوم، وأنه كان يتوب إليه في كل يوم) (٣)، على أن المراد: رجوعه من حالة إلى أرفع منها» (٤).

فأنت ترى بعد إيراد أقوال أهل العلم في هذه المسألة: أن نسبة الخطأ الصغير غير المُزري بمنصب النبي إلى النبي - عليه السلام - لا تعدُّ غباءً ولا جهلًا، كما يدَّعيه مؤلف الرسالة. وكيف يكون ذلك غباءً وقد دلَّت ظواهر القرآن والسُّنَّة الصحيحة عليه، كما سبق؟

بل كيف يكون غباءً وقد قال به أئمة جهابذة لا نشكُّ في علمهم وإخلاصهم وفي معرفتهم بحقوق الأنبياء - عليهم السلام - وقدرهم وعلو مرتبتهم عند ربهم وكرامتهم عليه وما يجوز في حقهم وما لا يجوز؟

بل الغباء حقيقة فيمن يرى ويسمع الحق ثم يمشي مكبًَّا على وجهه لا يلتفت إليه ولا يأخذ به، ويُلقي به وراءه ظِهريًا.

ثالثًا: أن النسيان الذي يطرأ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يقدح في عصمته؛ لأنه إنما ينسى - صلى الله عليه وسلم - أولًا ليشرّع لأمته، وينسى ثانيًا لأنه من البشر، ومن خصائص البشر هؤلاء أنهم ينسون، وما سُمي ابن آدم إنسانًا إلا لكثرة نسيانه.

وقد ثبت عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي) (٥).


(١) شرح صحيح مسلم للنووي (٣ - ٤/ ٥٢). وانظر كلام القاضي عياض في هذه المسألة في كتابه: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (٢/ ٣٢٨ - ٣٣٤). وقد لخص النووي تلخيصًا حسنًا في شرحه لصحيح مسلم، وهو التلخيص المذكور.
(٢) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ - عليه السلام - بِسَارَةَ، فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ المُلُوكِ أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ! مَنْ هَذِهِ الَّتِي مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِي. ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ: لَا تُكَذِّبِي حَدِيثِي، فَإِنِّي أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِي، وَاللَّهِ إِنْ عَلَى الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ)، الحديث. صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه (٣/ ٨٠ - ٨١)، رقم (٢٢١٧)، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - (٤/ ١٨٤٠)، رقم (٢٣٧١).
(٣) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً). صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم والليلة (٨/ ٦٧)، رقم (٦٣٠٧).
وعن الأغر المزني - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ). صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه (٤/ ٢٠٧٥)، رقم (٢٧٠٢).
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ). صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه (٤/ ٢٠٧٥)، رقم (٢٧٠٢).
(٤) إرشاد الفحول للشوكاني (١/ ١٠٠ - ١٠١).
(٥) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان (١/ ٨٩)، رقم (٤٠١)، وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (١/ ٤٠١)، رقم (٥٧٢).

<<  <   >  >>