للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم قال بعد ذلك: «ويا ليتهم توقفوا عن هذه الرواية! بل راحوا ينسبون إليه روايات تصفه بأنه كان شهوانيًا إلى حدِّ أنه كان إذا رأى امرأة فأعجبته تثور الشهوة فيه. نعوذ بالله من قولهم هذا». وأورد أحاديث في هذا المعنى، ثم عقب عليها بقوله: «إن مثل هذه الروايات وضعت للنيل من قدسية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولتبرير مجون الحكام الأمويين الذين امتلأت قصورهم بالجواري والنساء بلا حدود»؛ لأنهن ملك يمين.

ثم قال بعد ذلك: «وهناك من الروايات ما هو أفظع وأبشع، فمنها: ما أخرجه البخاري بسنده عن

عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ يُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ) (١).

وأخرج البخاري أيضًا بسنده عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا) (٢)، الحديث».

وقال أيضًا: «فبربك أيها المسلم كيف تقبل مثل هذه الروايات التي تصف نبيك سيدنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم بأنه بلغ إلى أقصى درجة من الشهوة الجنسية؟ فهو لم يصبر -بزعم هذه الرواية- عن امرأته في حال حيضها حتى يباشرها وهو صائم (٣). فهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:٢٢٢]؟ هذا ما لا يقوله عاقل» اهـ.

والجواب:

أجيب عن هذه المطاعن فيما يلي:

أولًا: أن هذا الحديث صحيح باتفاق أهل هذا الشأن، ولا توجد ثمَّ علة في سنده ولا متنه تمنع من قبوله، ولذلك خرّجه البخاري في صحيحه. وصاحب البيت أدرى بما فيه.

وعلى هذا: فإن الشرع والعقل يلزمانه بقبوله، فأما الشرع: فقد دلَّت الدلائل الكثيرة منه على وجوب قبول خبر الثقة. ورجال هذا الحديث جميعًا من الموصوفين بالعدالة والحفظ والإتقان. وهذه الصفات هي صفات الثقة عند العلماء.

وأمَّا العقل: فيقال له: كيف يتأتى في الأذهان قبول خبر شخص مرةً ورد خبره وتكذيبه مرة أخرى؟ لأنه إمَّا أن يكون ثقة فيلزم قبول خبره كله إلا ما شذَّ فيه، وإمَّا أن يكون كاذبًا فيلزم رد خبره كله من غير استثناء. لكن صاحب هذه الرسالة لم يلتزم بأي واحدة من هذه، ولهذا فقد وقع في تناقض كثير في رسالته، حيث نراه يرفض هذا الحديث وغيره مما أخرجه الشيخان أو أحدهما، ويستدلُّ في الوقت نفسه بأحاديث مخرجة فيهما رُويت من طريق أولئك الرواة الذين سبق وأن رفض حديثهم! فكيف يصحُّ مثل هذا عند العقلاء؟!


(١) صحيح البخاري، كتاب الاعتكاف، باب غسل المعتكف (٣/ ٤٨)، رقم (٢٠٣٠).
(٢) صحيح البخاري وصحيح مسلم. وقد تقدم.
(٣) جاء في نهاية الحديث السابق: (قَالَتْ -يعني: عائشة - رضي الله عنها -: وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَمْلِكُ إِرْبَهُ). صحيح البخاري، كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض (١/ ٦٧ - ٦٨)، رقم (٣٠٢)، وصحيح مسلم، كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض فوق الإزار (١/ ٢٤٢)، رقم (٢٩٣).
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ). صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب المباشرة للصائم (٣/ ٣٠)، رقم (١٩٢٧)، وصحيح مسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته (٢/ ٧٧٧)، رقم (١١٠٦).

<<  <   >  >>