لِقَوْلِهِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣] ثَانِيهَا نَعَمْ قَالَ تَعَالَى فِي مُتَشَابِهِ الْكِتَابِ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: ٧] إذْ الْوَقْفُ هُنَا كَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَإِذَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا (ثَالِثُهَا الْأَصَحُّ لَا يَبْقَى) الْمُجْمَلُ (الْمُكَلَّفُ بِمَعْرِفَتِهِ) غَيْرَ مُبَيَّنٍ لِلْحَاجَةِ إلَى بَيَانِهِ حَذَرًا مِنْ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ عَلَى أَنَّ صَوَابَ الْعِبَارَةِ بِالْعَمَلِ بِهِ
ــ
[حاشية العطار]
بِمَا قَبْلَ الْوَفَاةِ مَعَ مُوَافَقَةِ الْوَاقِعِ لَهُ وَالْآيَةُ الْمُسْتَدَلُّ بِهَا تُفِيدُ أَنَّ الْإِكْمَالَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَصَلَ وَوَقْتُ نُزُولِهَا سَابِقٌ عَلَى الْوَفَاةِ.
وَقَدْ بُيِّنَتْ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ وَالْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِإِكْمَالِ الدِّينِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ اسْتِيعَابُ أُصُولِهِ وَمَا بُيِّنَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ مِنْ فُرُوعِ تِلْكَ الْأُصُولِ يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ الْقَاضِي فِي التَّفْسِيرِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣] بِالنَّصْرِ وَالْإِظْهَارِ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا أَوْ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ وَالتَّوْقِيفِ عَلَى أُصُولِ الشَّرَائِعِ وَقَوَانِينِ الِاجْتِهَادِ (قَوْلُهُ: إذْ الْوَقْفُ هُنَا) أَيْ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ فَيَكُونُ {وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران: ٧] مُسْتَأْنَفًا وَوُجِّهَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوقَفْ عَلَيْهِ لَكَانَ {وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران: ٧] عَطْفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ فَيَكُونُ يَقُولُونَ آمَنَّا حَالًا أَيْ قَائِلِينَ ذَلِكَ.
ثُمَّ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ مَجْمُوعِ الْمُتَعَاطِفِينَ فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ قَائِلًا ذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ بَاطِلٌ أَوْ حَالٌ مِنْ الْمَعْطُوفِ وَلَا يَصِحُّ لِمُخَالَفَتِهِ قَاعِدَةَ الْعَرَبِيَّةِ.
وَأُجِيبَ بِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْمَعْطُوفِ بِالْحَالِ حَيْثُ لَا لَبْسَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: ٧٢] أَيْ حَالَةَ كَوْنِ يَعْقُوبَ نَافِلَةً لِظُهُورِ أَنَّ النَّافِلَةَ أَيْ وَلَدَ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - إنَّمَا هُوَ يَعْقُوبُ دُونَ إِسْحَاقَ قَالَ الْخُجَنْدِيُّ وَالْوَقْفُ عَلَى اللَّهِ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيُؤَكِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ تَأْوِيلَهُ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَيَقُولُ {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [النساء: ١٦٢] وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مِنْ رُسُوخِهِمْ أَنْ آمَنُوا بِالْمُتَشَابِهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا تَأْوِيلَهُ وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ انْتَهَى عِلْمُهُمْ إلَى أَنْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ
(قَوْلُهُ: كَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ) وَالْمُقَابِلُ يَقُولُ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَهُ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى عَطْفِ وَالرَّاسِخُونَ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَاَلَّذِي اخْتَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ هُوَ عِلْمُ تَفْصِيلِهِ ذَاتًا وَزَمَنًا مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ أَصْلًا فَلَا يُنَافِيهِ عَلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِوَاسِطَةٍ أَوْ إلْهَامٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ وَلَا يَلْزَمُ اللَّغْوُ وَالْعَبَثُ عَلَى تَقْدِيرِ الْخِطَابِ بِمَا لَا يُفْهَمُ لِجَوَازِ كَوْنِ بَعْضِ الْقُرْآنِ لَا لِلْإِفْهَامِ بَلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اخْتِصَاصِ بَعْضِ الْأَسْرَارِ بِعِلْمِهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ فِيهِ فَائِدَةً وَهِيَ الثَّوَابُ فِي تِلَاوَتِهِ وَابْتِلَاءُ الرَّاسِخِينَ بِمَنْعِهِمْ عَنْ التَّفْكِيرِ فِيمَا يُوَصِّلُهُمْ إلَى مَبْلَغِهِمْ مِنْ الْعِلْمِ كَمَا تُبْتَلَى الْجَهَلَةُ بِتَحْصِيلِهِ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
(قَوْلُهُ: لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَرْقِ) قَالَ ابْنُ يَعْقُوبَ فِيهِ أَنَّ نَفْيَ الْقَائِلِ بِالْفَرْقِ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْقَائِلِ بِالتَّسَاوِي وَعَلَى تَسْلِيمِهِ يُطَالِبُ بِالدَّلِيلِ وَقِيَاسُ أَنَّهُ لَا فَارِقَ لَا يُسَلِّمُ نَعَمْ احْتِمَالُ الْوُقُوعِ بَيِّنٌ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ احْتِمَالِ الْوُقُوعِ فِي الْكِتَابِ (قَوْلُهُ: حَذَرًا مِنْ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ) فِيهِ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِهِ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا مِنْهُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَجْهُولِ الْمُتَوَقِّفِ مَعْرِفَتُهُ عَلَى التَّبْيِينِ مَعَ انْتِفَاءِ التَّبْيِينِ وَمِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً وَهُوَ مَقْدُورٌ فِي الظَّاهِرِ وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ التَّكْلِيفِ الْمُحَالِ كَتَكْلِيفِ الْغَافِلِ إذْ الْمُكَلَّفُ هُنَا لَيْسَ بِغَافِلٍ لِأَنَّهُ يَدْرِي وَلَكِنْ لَا يَقْدِرُ وَذَاكَ لَا يَدْرِي هَذَا مُحَصَّلُ مَا فِي سم.
وَأَقُولُ: لَا وُرُودَ لِهَذَا السُّؤَالِ أَصْلًا لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ بِصَدَدِ نَقْلِ الْأَقْوَالِ فَالتَّصْحِيحُ لِغَيْرِهِ وَلَا يَرِدُ السُّؤَالُ إلَّا لَوْ كَانَ هُوَ الْمُصَحِّحَ وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْقَائِلُ بِهَذَا يَمْنَعُ التَّكَلُّفَ بِمَا لَا يُطَاقُ إذْ الْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى الْمَنْعِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ الْبُرْهَانِ مَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا حَيْثُ قَالَ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا إلَخْ وَذِكْرُ التَّفْصِيلِ الَّذِي قَالَهُ الشَّارِحُ وَطَرِيقَةُ صَاحِبِ الْبُرْهَانِ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْهُ
(قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ صَوَابَ الْعِبَارَةِ) اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ اسْتِقَامَةِ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَا عَبَّرَ بِهِ أَحْسَنُ فَإِنَّ الْمُرَادَ مَا كُلِّفَ بِمَعْرِفَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ لِيَعْمَلَ بِهِ أَوْ يَعْلَمُ بِخِلَافِ التَّعْبِيرِ بِالْعَمَلِ فَإِنَّهُ قَاصِرٌ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا يَشْمَلُ