أَيْضًا أَيْ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ لَتَعَطَّلَتْ وَقَائِعُ الْأَحْكَامِ الْمَرْوِيَّةِ بِالْآحَادِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُرَجِّحْ الْأَوَّلَ كَمَا رَجَّحَهُ غَيْرُهُ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الثَّانِي مَنْقُولٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْقَفَّالِ وَابْنِ سُرَيْجٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ
(وَقَالَتْ الظَّاهِرِيَّةُ
ــ
[حاشية العطار]
السَّمْعِ أَيْ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالُ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ وَالْبَصْرِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ: دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا دَلَّ السَّمْعُ
(قَوْلُهُ: أَيْ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ) يَعْنِي أَنَّ عَقْلًا تَمْيِيزٌ عَنْ النِّسْبَةِ وَمِثْلُهُ يَأْتِي فِي قَوْلِهِ قِيلَ سَمْعًا، وَلَوْ قَدَّمَهُ ثَمَّ كَانَ أَوْلَى اهـ. زَكَرِيَّا.
وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ سَمْعًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْسُ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ لَا شَيْءٌ مِنْ جِهَتِهِ بِخِلَافِ مَا هُنَا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَقْلِ الْقُوَّةُ الْمُدْرِكَةُ وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ أَمْرٌ مِنْ جِهَتِهِ (قَوْلُهُ: لَوْ لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ إلَخْ) فِي دَلِيلٍ اسْتِثْنَائِيٍّ لَا يَخْفَى تَقْرِيرُهُ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ اجْتِنَابُ الْمَضَارِّ إجْمَالًا قَطْعًا وَجَبَ تَفَاصِيلُ مِثْلُ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي مَضَرَّةِ أَكْلِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَيَحْكُمُ الْعَقْلُ بِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ وَفِي انْكِسَارِ جِدَارٍ يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَيَحْكُمُ الْعَقْلُ بِأَنَّهُ لَا يُقَامُ تَحْتَهُ وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بُعِثَ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ قَطْعًا، وَمَضْمُونُ خَبَرِ الْوَاحِدِ تَفْصِيلٌ لَهُ وَالْخَبَرُ يُفِيدُ الظَّنَّ بِهِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ عَقْلًا، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ فِي تَفَاصِيلِ مَقْطُوعِ الْأَصْلِ وَاجِبٌ بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ، وَلَمْ يَنْتَهِ إلَى حَدِّ الْوُجُوبِ (قَوْلُهُ: لَتَعَطَّلَتْ) أَيْ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي لَاحَظَهُ الشَّارِعُ فَإِنَّ أَكْثَرَ مُلَاحَظَاتِهِ الْوُجُوبُ فَلَا يُقَالُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْوُجُوبِ التَّعْطِيلُ لِوُجُودِ الْجَوَازِ (قَوْلُهُ:، وَإِنَّمَا لَمْ يُرَجِّحْ الْأَوَّلَ) أَيْ فِي الْمَتْنِ، وَإِلَّا فَقَدْ رَجَّحَهُ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ بَلْ تَرَدَّدَ فِي صِحَّتِهِ النَّقْلُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالِ ثُمَّ قَالَ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْقَفَّالَ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مُعْتَزِلِيًّا فَلَعَلَّهُ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَقْتَ اعْتِزَالِهِ وَابْنُ سُرَيْجٍ كَانَ يُنَاظِرُ دَاوُد فَلَعَلَّهُ بَالَغَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ فَتُوُهِّمَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةُ اهـ.
كَمَا أَقُولُ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَفَّالِ وَذَكَرْنَا بَعْضَهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَنَقَلَ بَعْضَ مُنَاظَرَاتٍ وَقَعَتْ بَيْنَ ابْنِ سُرَيْجٍ وَدَاوُد هِيَ فِي غَايَةِ اللُّطْفِ فَمَنْ لَهُ هِمَّةٌ فَلْيَرْجِعْ إلَى الطَّبَقَاتِ فَإِنَّهُ كِتَابٌ جَامِعٌ لِمَحَاسِنِ فُقَهَائِنَا الشَّافِعِيَّةِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ أَجْمَعِينَ -
(قَوْلُهُ: عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ) مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ (قَوْلُهُ: عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ) رَاجِعٌ لِقَوْلِهِ كَمَا رَجَّحَهُ غَيْرُهُ (قَوْلُهُ: وَقَالَتْ الظَّاهِرِيَّةُ) لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مُطْلَقًا صَادِقٌ هُوَ وَبَقِيَّةُ الْأَقْوَالِ بَعْدَهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَبِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِ وَأَدِلَّتُهَا الْمَذْكُورَةُ تَنْطَبِقُ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَالدَّلِيلُ أَخُصُّ مِنْ الْمُدَّعَى فَلَوْ قَالَ: وَقَالَتْ الظَّاهِرِيَّةُ يَمْتَنِعُ مُطْلَقًا لَوَفَّى بِالْمُرَادِ اهـ. زَكَرِيَّا.
وَقَالَ النَّاصِرُ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ لَا يَجِبُ لَا يَجُوزُ بِدَلِيلِ سِيَاقِ أَدِلَّتِهِمْ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِهِ لِمُقَابَلَةِ مَا قَبْلَهُ (فَائِدَةٌ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِتَرْشِيحِ التَّوْشِيحِ خِلَافًا لِأَئِمَّتِنَا فِي الِاعْتِدَادِ بِخِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ قَالَ نَاقِلًا عَنْ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ: الْمُحَقِّقُونَ لَا يُقِيمُونَ لِخِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ وَزْنًا وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إنِّي لَا أَعُدُّهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا أُبَالِي بِخِلَافِهِمْ، وَلَا وِفَاقِهِمْ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَهَذَا وَجْهٌ ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ