للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: ٤٣] عُوتِبَ عَلَى اسْتِيفَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ بِالْفِدَاءِ وَعَلَى الْإِذْنِ لِمَنْ ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَلَا يَكُونُ الْعِتَابُ فِيمَا صَدَرَ عَنْ وَحْيٍ فَيَكُونُ عَنْ اجْتِهَادٍ، وَقِيلَ يَمْتَنِعُ لَهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْيَقِينِ بِالتَّلَقِّي مِنْ الْوَحْيِ بِأَنْ يَنْتَظِرَهُ، وَالْقَادِرُ عَلَى الْيَقِينِ فِي الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ جَزْمًا وَرُدَّ بِأَنَّ إنْزَالَ الْوَحْيِ لَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ، (وَثَالِثُهَا) الْجَوَازُ وَالْوُقُوعُ فِي الْآرَاءِ (وَالْحُرُوبُ فَقَطْ) أَيْ وَالْمَنْعُ فِي غَيْرِهَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ.

(وَالصَّوَابُ أَنَّ اجْتِهَادَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُخْطِئُ) تَنْزِيهًا لِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ عَنْ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَقِيلَ قَدْ يُخْطِئُ

ــ

[حاشية العطار]

وَأَرَاك لَا يَسْتَقِيمُ لِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ لِاسْتِحَالَتِهَا فِي الْأَحْكَامِ وَلَا لِلْعِلْمِ لِوُجُوبِ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ الثَّالِثِ لَهُ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الرَّأْيَ أَيْ بِمَا جَعَلَ اللَّهُ رَأْيًا لَكَ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَحُذِفَ الْمَفْعُولَانِ مَعًا، وَإِنَّهُ جَائِزٌ وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ لِخَثْعَمَةَ «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» «وَقَوْلُهُ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ سَأَلَهُ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ يَضُرُّك» فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قِيَاسٌ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلِمَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ لَكِنَّهُ بَيَّنَهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لِمَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى فَهْمِ السَّامِعِ وَفِي الْمَنْخُولِ الْمُخْتَارُ أَنَّا لَا نَظُنُّ إسْنَادًا بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ، وَيُسَوَّغُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فَهَذَا حُكْمُ الْعَقْلِ جَوَازًا وَأَمَّا وُقُوعُهُ فَالْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْتَهِدُ فِي الْقَوَاعِدِ وَكَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْفُرُوعِ.

قَوْلُهُ {أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: ٦٧] أَيْ مَأْخُوذًا مِنْهَا الْفِدَاءُ {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: ٦٧] أَيْ يُكْثِرَ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ وَيَكْسِرَ شَوْكَتَهُمْ ثُمَّ إنَّ مَنْ قَرَأَ تَكُونَ بِالتَّاءِ أَمَالَ أَسْرَى وَمَنْ قَرَأَهَا بِالْيَاءِ لَمْ يُمِلْ أَسْرَى، وَأَمَّا مَا اُشْتُهِرَ مِنْ الْقِرَاءَةِ بِالتَّاءِ مَعَ عَدَمِ الْإِمَالَةِ فَلَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْقُرَّاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَلْفِيقٌ (قَوْلُهُ: لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْيَقِينِ بِالتَّلَقِّي مِنْ الْوَحْيِ) أَوْ رُدَّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ لَا يَتِمُّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالِاجْتِهَادِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطْلَقًا بَلْ عَلَى الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ قَدْ يُخْطِئُ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يُخْطِئُ فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِمْ بِانْحِصَارِ سَبَبِ الْيَقِينِ فِي التَّلَقِّي مِنْ الْوَحْيِ بَلْ سَبَبُ الْيَقِينِ عِنْدَهُمْ أَمْرَانِ التَّلَقِّي مِنْ الْوَحْيِ وَالتَّلَقِّي مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَتَمَامُ الدَّلِيلِ عَلَى الْخَصْمِ لَا يَتَأَتَّى مَعَ عَدَمِ تَسْلِيمِهِ وَفِي التَّمْهِيدِ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي الْفُرُوعِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّصُوصِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْذِ بِالظَّنِّ مُطْلَقًا مَعَ إمْكَانِ الْقَطْعِ كَجَوَازِ الِاجْتِهَادِ بَيْنَ مِيَاهٍ تَنَجَّسَ بَعْضُهَا وَهُوَ عَلَى الشَّطِّ وَجَوَازِهِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ مَعَ إمْكَانِ الْمَصِيرِ إلَى الْيَقِينِ انْتَهَى وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقِبْلَةَ لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْيَقِينِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ إذْ يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ لِمَنْ فِي نَحْوِ دُورِ مَكَّةَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْيَقِينِ بِنَحْوِ الْخُرُوجِ لِمُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ الِاجْتِهَادُ عَلَى الْمُتَمَكِّنِ مِنْ الْيَقِينِ بِسُهُولَةٍ كَمَنْ يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَعَ نَحْوِ ظُلْمَةٍ فَتَأَمَّلْ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْقَائِلَ بِمَنْعِ الِاجْتِهَادِ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: ٣] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٤] وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ وَأَنَّ كُلَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ فَهُوَ وَحَيٌّ وَهُوَ يَنْفِي الِاجْتِهَادَ.

لِأَنَّهُ قَوْلُ الرَّأْيِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ أَنَّهُ رَدُّ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ افْتِرَاءٌ فَيَخْتَصُّ بِمَا بَلَّغَهُ وَيَنْتَفِي الْعُمُومُ وَلَوْ سَلَّمَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَنْفِي الِاجْتِهَادَ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَأْمُورٌ بِهِ فَلَيْسَ نُطْقًا بِهَوًى بَلْ هُوَ قَوْلٌ عَنْ الْوَحْيِ وَاسْتَدَلَّا أَيْضًا بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ كَالظِّهَارِ وَاللِّعَانِ فَلَوْ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لَمَا أَخَّرَ بَلْ اجْتَهَدَ.

وَأُجِيبَ بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ بَلْ جَازَ التَّأْخِيرُ لِيَحْصُلَ الْيَأْسُ عَنْ النَّصِّ حَتَّى يَجُوزَ الِاجْتِهَادُ حِينَئِذٍ إذْ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ مَشْرُوطٌ بِالتَّيَقُّنِ بِعَدَمِ النَّصِّ، وَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَجِدْ أَصْلًا يَقِيسُ عَلَيْهِ وَوَجَدَ أَنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ مِنْ شَرَائِطِ الْقِيَاسِ أَوْ لِأَنَّ اسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ يَسْتَدْعِي زَمَانًا (قَوْلُهُ: جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ) فَإِنَّهَا فِي الْحُرُوبِ.

(قَوْلُهُ: وَالصَّوَابُ أَنَّ اجْتِهَادَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُخْطِئُ) اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ فَلَوْ أَخْطَأَ وَجَبَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فَيَلْزَمُ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ وَهُوَ بَاطِلٌ. (قَوْلُهُ: وَقِيلَ قَدْ يُخْطِئُ) صَرَّحَ الْبُدَخْشِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ بِأَنَّ مُخْتَارَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْخَطَأُ فِي اجْتِهَادِهِ وَإِنْ لَمْ يُحْتَمَلْ الْقَرَارُ عَلَيْهِ؛ «لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَرَأَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخْذَ الْفِدْيَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>