(الْقَدَرُ) وَهُوَ مَا يَقَعُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُقَدَّرُ فِي الْأَزَلِ. (خَيْرُهُ وَشَرُّهُ) كَائِنٌ
ــ
[حاشية العطار]
فَإِنَّهُ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا. قَالَ وَنَظِيرُ ذَلِكَ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: ٤٥] أَيْ وَلَذِكْرُ الِاسْمِ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ الْأَسْمَاءِ.
(قَوْلُهُ: الْقَدَرُ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مِنْهُ، وَذَكَرَ الشَّارِحُ الْمُتَعَلِّقَ مَعَ كَوْنِهِ كَوْنًا عَامًّا وَاجِبَ الْحَذْفِ لِلْإِشَارَةِ إلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ شَرَّهُ وَخَيْرَهُ بَدَلٌ مِنْ الْقَدَرِ إلَّا لَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ الْقَدْرُ مُبْتَدَأٌ أَوَّلُ، وَخَيْرُهُ وَشَرُّهُ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ وَمِنْهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الثَّانِي وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْأَوَّلِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ كَائِنَانِ مِنْهُ (قَوْلُهُ: وَهُوَ مَا يَقَعُ إلَخْ) إشَارَةً إلَى أَنَّ الْقَدَرَ بِمَعْنَى الْمَقْدُورِ وَفَسَّرَهُ بِذَلِكَ لِأَجْلِ قَوْلِهِ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ وَإِلَّا فَالْقَدَرُ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ إيجَادُ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى قَدْرٍ مَخْصُوصٍ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: ٤٩] وَهُوَ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ قَرِينُ الْقَضَاءِ فِي عِبَارَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَقَضَاءُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ إرَادَتُهُ الْأَزَلِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِيمَا لَا يَزَالُ وَقَدَرُهُ إيجَادُهُ الْأَشْيَاءَ عَلَى قَدَرٍ مَخْصُوصٍ قَالَ سَيِّدِي عَلِيٌّ الْأُجْهُورِيُّ
إرَادَةُ اللَّهِ مَعَ التَّعَلُّقِ ... فِي أَزَلٍ قَضَاؤُهُ فَحَقِّقْ
وَالْقَدَرُ الْإِيجَادُ لِلْأَشْيَا عَلَى ... وَجْهٍ مُعَيَّنٍ أَرَادَهُ عَلَا
وَبَعْضُهُمْ قَدْ قَالَ مَعْنَى الْأَوَّلِ ... الْعِلْمُ مَعَ تَعَلُّقٍ فِي الْأَزَلِ
وَالْقَدَرُ الْإِيجَادُ لِلْأُمُورِ ... عَلَى وِفَاقِ عِلْمِهِ الْمَذْكُورِ
(قَوْلُهُ: خَيْرُهُ وَشَرُّهُ) كَوْنُ الْفِعْلِ شَرًّا إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ كَسْبِنَا، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ خَلْقِ اللَّهِ إيَّاهُ فَحَسَنٌ فَكُلُّ مَا صَدَرَ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَضْلٌ أَوْ عَدْلٌ فِي عَبِيدِهِ وَلِسَيِّدِي مُحَمَّدٍ وَفَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
سَمِعْت اللَّهَ فِي سِرِّي يَقُولُ ... أَنَا فِي الْمُلْكِ وَحْدِي لَا أَزُولُ
وَحَيْثُ الْكُلُّ مِنِّي لَا قَبِيحٌ ... وَقُبْحُ الْقُبْحِ مِنْ حَيْثِيّ جَمِيلُ
فَالْفِعْلُ لَهُ جِهَتَانِ كَوْنُهُ مَقْضِيًّا لَهُ تَعَالَى وَكَوْنُهُ مُكْتَسَبَ الْعَبْدِ فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الرِّضَا بِالْقَدَرِ مِنْ الْجِهَةِ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةِ وَلِذَلِكَ قِيلَ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي بِالْحَقِّ وَيُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدْرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ» ، وَأَمَّا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: ٧٩] فَوَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ أَيْ كَيْفَ تَكُونُ هَذِهِ التَّفْرِقَةُ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مُجَرَّدِ السَّبَبِيَّةِ.
رَوَى الْأَصْبَغُ بْنُ نَبَاتَةَ أَنَّ شَيْخًا قَامَ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ صِفِّينَ فَقَالَ أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إلَى الشَّامِ أَكَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ فَقَالَ: وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا وَطِئْنَا مَوْطِئًا وَلَا هَبَطْنَا وَادِيًا وَلَا عَلَوْنَا تَلْعَةً إلَّا بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ فَقَالَ الشَّيْخُ عِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُ عَنَائِي مَا أَرَى لِي مِنْ الْأَجْرِ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ: مَهْ أَيُّهَا الشَّيْخُ عَظَّمَ اللَّهُ أَجْرَكُمْ فِي مَسِيرِكُمْ وَأَنْتُمْ سَائِرُونَ وَفِي مُنْصَرَفِكُمْ وَأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ وَلَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالَاتِكُمْ مُكْرَهِينَ وَلَا إلَيْهَا مُضْطَرِّينَ فَقَالَ الشَّيْخُ كَيْفَ وَالْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ سَاقَانَا فَقَالَ وَيْحَك لَعَلَّك ظَنَنْت قَضَاءً لَازِمًا وَقَدَرًا حَتْمًا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَلَمْ تَأْتِ لَائِمَةٌ مِنْ اللَّهِ لِمُذْنِبٍ وَلَا مَحْمَدَةٌ لِمُحْسِنٍ، وَلَمْ يَكُنْ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْمَدْحِ مِنْ الْمُسِيءِ وَلَا الْمُسِيءُ أَوْلَى بِالذَّمِّ مِنْ الْمُحْسِنِ تِلْكَ مَقَالَةُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَجُنُودِ الشَّيْطَانِ وَشُهُودِ الزُّورِ وَأَهْلِ الْعَمَى عَنْ الصَّوَابِ، وَهُمْ قَدَرِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَجُوسُهَا إنَّ اللَّهَ أَمَرَ تَخْيِيرًا وَنَهَى تَحْذِيرًا وَكَلَّفَ يَسِيرًا لَمْ يَعْصِ مَغْلُوبًا وَلَمْ يُطِعْ مُكْرَهًا وَلَمْ يُرْسِلْ الرُّسُلَ إلَى خَلْقِهِ عَبَثًا وَلَمْ يَخْلُقْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ فَقَالَ الشَّيْخُ: وَمَا الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ اللَّذَانِ مَا سِرْنَا إلَّا بِهِمَا؟ قَالَ هُوَ الْأَمْرُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُكْمُ ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى