للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَاهِيَّةٍ مُتَقَرِّرَةٌ بِذَاتِهَا.

(وَثَالِثُهَا) مَجْعُولَةً (إنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً) بِخِلَافِ الْبَسِيطَةِ

(أَرْسَلَ الرَّبُّ تَعَالَى رُسُلَهُ) مُؤَيَّدِينَ مِنْهُ (بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ) أَيْ الظَّاهِرَاتِ (وَخُصَّ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مِنْهُمْ بِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ

ــ

[حاشية العطار]

هَذَا ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ لِلْمَاهِيَّةِ ثُبُوتًا فِي الْقِدَمِ وَكَذَلِكَ الْحُكَمَاءُ الْمَشَّاءُونَ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ أَثَرُ الْفَاعِلِ هُوَ الشَّيْءُ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِاعْتِبَارِهِ الْوُجُودَ وَلَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ إلَى أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ مَجْعُولَةً بِمَعْنَى كَوْنِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ مَاهِيَّةً.

إذْ لَا مَعْنَى لَهُ هَذَا هُوَ تَحْرِيرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ حَسْبَمَا حَقَّقَهُ الْجَلَالُ الدَّوَانِيُّ فِي حَوَاشِي الزَّوْرَاءِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْجَعْلِ بِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَجْعُولَةً لَارْتَفَعَتْ الْمَجْعُولِيَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا أَوْ فِي وُجُودِهَا وَاتِّصَافِهَا بِالْوُجُودِ وَلَوْ ارْتَفَعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ لَزِمَ اسْتِغْنَاءُ الْمُمْكِنِ عَنْ الْمُؤَثِّرِ وَهُوَ بَاطِلٌ وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْجَعْلِ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ الْإِنْسَانِيَّةُ مَثَلًا بِجَعْلِ الْجَاعِلِ لَمْ تَكُنْ الْإِنْسَانِيَّةُ عِنْدَ عَدَمِ جَعْلِ الْجَاعِلِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ أَمَّا بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ؛ فَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَثَرًا لِلْجَعْلِ وَيَكُونُ أَثَرًا لَهُ يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ، وَأَمَّا بُطْلَانُ الثَّانِي؛ فَلِأَنَّهُ سَلْبُ الشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ.

وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ لَمْ تَكُنْ الْإِنْسَانِيَّةُ إنْسَانِيَّةً قَضِيَّةٌ مَعْدُولَةٌ يَكُونُ مَوْضُوعُهَا مَوْجُودًا فَلَا نُسَلِّمُ هَذَا وَإِنْ أُرِيدَ قَضِيَّةٌ سَالِبَةٌ فَلَا نُسَلِّمُ اسْتِحَالَةَ سَلْبِ الشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمَعْدُومَ فِي الْخَارِجِ دَائِمًا مَسْلُوبٌ عَنْ نَفْسِهِ فَإِذَا ارْتَفَعَ الْجَعْلُ فِي وَقْتٍ أَوْ دَائِمًا ارْتَفَعَ الْإِنْسَانِيَّةُ كَذَلِكَ فَيَصْدُقُ قَوْلُنَا لَيْسَ الْإِنْسَانِيَّةُ إنْسَانِيَّةً هَذَا مَا يُقَالُ هُنَا وَأَمَّا اسْتِيعَابُ أَطْرَافِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فَقَدْ أَوْدَعْنَاهُ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً وَبَعْدَ إحَاطَتِك بِمَا قَرَّرْنَاهُ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ الشَّيْخِ الْغُنَيْمِيِّ فِي حَوَاشِي شَرْحِ الصُّغْرَى إنْ كَانَ الْجَعْلُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ فَلَا مَعْنَى لِتَصْيِيرِ الشَّيْءِ نَفْسَهُ لِلُزُومِ الْمُغَايَرَةِ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ فَهِيَ مَجْعُولَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَرَجْعُ الْخِلَافِ لَفْظِيًّا لَا فَرْقَ بَيْنَ بَسِيطٍ وَمُرَكَّبٍ سَاقِطٌ جِدًّا.

كَيْفَ وَقَدْ فَرَّعَ كُلُّ فَرِيقٍ عَلَى قَوْلِهِ مَا لَمْ يَقُلْ بِهِ الْآخَرُ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ مَبْسُوطَاتِ الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ فَتَأَمَّلْهُ

(قَوْلُهُ: أَرْسَلَ الرَّبُّ تَعَالَى رَسُولَهُ) قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ عِنْدَ قَوْلِ النَّسَفِيِّ وَفِي إرْسَالِ الرُّسُلِ حِكْمَةٌ أَيْ مَصْلَحَةٌ وَعَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ إرْسَالَ الرُّسُلِ وَاجِبٌ لَا بِمَعْنَى الْوُجُوبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ بِمَعْنَى أَنَّ قَضِيَّةَ الْحِكْمَةِ تَقْتَضِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ كَمَا زَعَمَتْ السُّمَنِيَّةُ وَالْبَرَاهِمَةُ وَلَا بِمُمْكِنٍ يَسْتَوِي طَرَفَاهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ اهـ.

قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِاقْتِضَاءِ الْحِكْمَةِ أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْحِكْمَةَ تُرَجِّحُ جَانِبَ وُقُوعِ الْإِرْسَالِ وَتُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْمُسَاوَاةِ مَعَ جَوَازِ التَّرْكِ فِي نَفْسِهِ وَهَذَا الْوُجُوبُ هُوَ الْوُجُوبُ الْعَادِيُّ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَفْعَلُهُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ كَعِلْمِنَا بِأَنَّ جَبَلَ أُحُدٍ لَمْ يَنْقَلِبْ ذَهَبًا مَعَ جَوَازِهِ وَلَيْسَ مِنْ الْوُجُوبِ الَّذِي زَعَمَهُ الْمُعْتَزِلَةُ بِحَيْثُ يَكُونُ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِلسَّفَهِ وَالْعَبَثِ اهـ.

وَالرُّسُلُ جَمْعُ رَسُولٍ، فَعُولٌ مِنْ الرِّسَالَةِ وَهِيَ سِفَارَةُ الْعَبْدِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ ذَوِي الْأَلْبَابِ مِنْ خَلِيقَتِهِ لِيُزِيحَ بِهَا عِلَلَهُمْ فِيمَا قَصُرَتْ عَنْهُ عُقُولُهُمْ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ الشَّعْرَانِيُّ فِي الْيَوَاقِيتِ وَالْجَوَاهِرِ إنَّ الْإِرْسَالَ اخْتِبَارٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِبَعْضِ الْبَشَرِ كَمَا قَالُوا {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [القمر: ٢٤] قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: ٩] وَأَيْضًا عَامَّةُ الْخَلْقِ لَا يُنَاسِبُهُمْ إرْشَادُ الرُّوحَانِيِّ الْمَحْضِ وَقَالَ فِي الْجَوَاهِرِ وَالْيَوَاقِيتِ نَقْلًا عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ يَمْتَنِعُ رِسَالَةُ نَبِيَّيْنِ مَعًا فِي آنٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَا يَنْطِقَانِ فِي رِسَالَتِهِمَا بِلِسَانٍ وَاحِدٍ مُوسَى وَهَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فَلَمْ يَكُنْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ تَخُصُّهُ (قَوْلُهُ: بِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) الْبَاءُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَقْصُورِ أَيْ خَتْمُ النُّبُوَّةِ قَاصِرٌ عَلَيْهِ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصَائِرِ لَمَّا كَانَ فَائِدَةُ الشَّرْعِ دَعْوَةَ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ وَإِرْشَادَهُمْ إلَى مَصَالِحِ الْعَرْشِ وَالْمَعَادِ وَإِعْلَامَهُمْ الْأُمُورَ الَّتِي تَعْجَزُ عَنْهَا عُقُولُهُمْ وَتَقْرِيرَ الْحِجَجِ الْقَاطِعَةِ وَإِزَالَةَ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ وَقَدْ تَكَفَّلَتْ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْغَرَّاءُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَتَمِّ الْأَكْمَلِ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهِ مَزِيدٌ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْله تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣] الْآيَةَ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ حَاجَةٌ لِلْخَلْقِ إلَى بَعْثَةِ نَبِيٍّ فَلِذَلِكَ خُتِمَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>