وَكَثِيرٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ إنَّهَا لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ وَإِنَّمَا هِيَ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَدَنِ لِلتَّدْبِيرِ وَالتَّحْرِيكِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ وَلَا خَارِجٍ عَنْهُ.
ــ
[حاشية العطار]
يُجْذَبُ وَيَخْرُجُ وَفِي أَكْفَانِهِ يُلَفُّ وَيُدْرَجُ وَبِهِ إلَى السَّمَاءِ يُعْرَجُ لَا يَمُوتُ وَلَا يَفْنَى وَهُوَ بِعَيْنَيْنِ وَيَدَيْنِ وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَجْسَامِ لَا صِفَةُ الْأَعْرَاضِ هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَكُلُّ مَنْ يَقُولُ إنَّ الرُّوحَ يَمُوتُ وَيَفْنَى فَهُوَ مُلْحِدٌ اهـ.
(قَوْلُهُ: وَكَثِيرٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ) مِنْهُمْ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْمَضْنُونُ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ إنَّ الرُّوحَ لَيْسَ بِجِسْمٍ يَحُلُّ فِي الْبَدَنِ حُلُولَ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ وَلَا هُوَ عَرَضٌ يَحُلُّ الْقَلْبَ وَالدِّمَاغَ حُلُولَ السَّوَادِ فِي الْأَسْوَدِ وَالْعِلْمِ فِي الْعَالِمِ بَلْ جَوْهَرٌ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ نَفْسَهُ وَيَعْرِفُ خَالِقَهُ وَيُدْرِكُ الْمَعْقُولَاتِ وَالْعَرَضُ لَا يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا هُوَ جِسْمٌ لِأَنَّ الْجِسْمَ قَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ وَالرُّوحُ لَا يَنْقَسِمُ لِأَنَّهُ لَوْ انْقَسَمَ لَجَازَ أَنْ يَقُومَ بِجُزْءٍ مِنْهُ عِلْمٌ بِشَيْءٍ وَبِالْجُزْءِ الْآخَرِ جَهْلٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عَالِمًا بِشَيْءٍ جَاهِلًا بِهِ فَيَجْتَمِعُ الضِّدَّانِ فَهُوَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْبَصَائِرِ وَأُولِي الْأَلْبَابِ جَوْهَرٌ لَا يَتَجَزَّأُ.
وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا إذْ كُلُّ مُتَحَيِّزٍ يَنْقَسِمُ بِأَدِلَّةٍ هَنْدَسِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ أُثْبِتَ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْجِسْمِ وَلَا خَارِجًا وَلَا مُتَّصِلًا وَلَا مُنْفَصِلًا لِأَنَّ مُصَحِّحَ الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ الْجِسْمِيَّةُ وَالتَّحَيُّزُ وَقَدْ انْتَفَتَا فَانْفَكَّ عَنْ الضِّدَّيْنِ كَمَا أَنَّ الْجَمَادَ لَا هُوَ عَالِمٌ وَلَا هُوَ جَاهِلٌ لِأَنَّ مُصَحِّحَ الْعِلْمِ الْحَيَاةُ فَإِذَا انْتَفَتْ انْتَفَى الضِّدَّانِ هَذَا خُلَاصَةُ مَا ذَكَرَهُ وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْبُرْهَانِ جِدًّا بِمَا لَا يَكَادُ يَسْلَمُ لَهُ وَنَصَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا إلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ حَدَثَتْ عِنْدَ اسْتِعْدَادِ النُّطْفَةِ لِلْقَبُولِ كَمَا حَدَثَتْ الصُّورَةُ فِي الْمِرْآةِ بِحُدُوثِ الصِّقَالَةِ وَإِنْ كَانَ ذُو الصُّورَةِ سَابِقَ الْوُجُودِ عَلَى الصِّقَالَةِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِبُرْهَانٍ مُطَوَّلٍ لَا يَخْلُو عَنْ الْخَدْشِ إلَى أَنْ قَالَ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَتْ الْأَرْوَاحُ حَادِثَةً مَعَ الْأَجْسَادِ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ بِأَلْفَيْ عَامٍ» وَقَوْلِهِ «أَنَا أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ خَلْقًا وَآخِرُهُمْ بَعْثًا وَكُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ» قُلْنَا هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ الرُّوحِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ وَكَوْنِهِ مَخْلُوقًا نَعَمْ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ وُجُودِهِ عَلَى الْجَسَدِ وَأَمْرُ الظَّوَاهِرِ هَيِّنٌ فَإِنَّ تَأْوِيلَهَا مُمْكِنٌ وَالْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ لَا يُدْرَأُ بِالظَّوَاهِرِ بَلْ يُسَلَّطُ عَلَى تَأْوِيلِ الظَّاهِرِ كَمَا فِي ظَوَاهِرِ التَّشْبِيهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ» فَالْمُرَادُ بِالْأَرْوَاحِ أَرْوَاحُ الْمَلَائِكَةِ وَبِالْأَجْسَادِ الْعَالَمُ مِنْ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالسَّمَوَاتِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْعَنَاصِرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ خَلْقًا وَآخِرُهُمْ بَعْثًا» فَالْخَلْقُ هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ دُونَ الْإِيجَادِ فَإِنَّهُ قَبْلَ وِلَادَتِهِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مَخْلُوقًا وَلَكِنَّ الْغَايَاتِ وَالْكَمَالَاتِ سَابِقَةٌ فِي التَّقْدِيرِ لَاحِقَةٌ فِي الْوُجُودِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ «كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ» فَإِنَّهُ كَانَ نَبِيًّا فِي التَّقْدِيرِ قَبْلَ تَمَامِ خِلْقَةِ آدَمَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
هَذَا خُلَاصَةُ مَا ذَكَرَهُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا سَابِقٌ عَلَى وُجُودِهَا فَلَا خُصُوصِيَّةَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ فَالْأَحْسَنُ مَا أَفَادَهُ وَالِدُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنْت نَبِيًّا إلَى رُوحِهِ الشَّرِيفَةِ وَالْأَرْوَاحُ قَبْلَ الْأَجْسَادِ وَهِيَ مُتَّصِفَةٌ بِالْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ الْمُفَاضَةِ عَلَيْهَا مِنْ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَمْ يَقَعْ الْوَصْفُ إلَّا لِمَوْصُوفٍ مَوْجُودٍ وَإِنْ تَأَخَّرَ الْجَسَدُ الشَّرِيفُ وَثَبَتَ وَذَلِكَ وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ لَهْوٌ أَمَّا حُكْمُ نُبُوَّتِهِ وَكَذَلِكَ نُبُوَّةُ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - فَإِنَّهَا لَا تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَلْزَمُ قِيَامُ صِفَةٍ بِغَيْرِ مَوْصُوفٍ أَمَّا أَوَّلًا؛ فَلِأَنَّ الْأَرْوَاحَ لَا تَفْنَى وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ وَمَا نُسِبَ إلَى الْإِمَامِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْبَاقِيَةِ أَيْ وَلَيْسَتْ بَاقِيَةً حَقِيقَةً مُفْتَرًى عَلَيْهِ وَقَدْ تَعَرَّضَ لِلْقِصَّةِ الْمُصَنِّفُ فِي الطَّبَقَاتِ بِمَا يَنْبَغِي الْوُقُوفُ عَلَيْهِ وَوَقَعَتْ مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ قِسِّيسٍ مِنْ النَّصَارَى وَعَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَمْ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَقَالَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَقَالَ إذًا عِيسَى أَفْضَلُ فَقَالَ الشَّيْخُ مَنْ عِيسَى الَّذِي تَعْنِيهِ إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بَشِيرًا بِأَحْمَدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute