التَّصَرُّفِ مَعَ الْقَوْلِ بِنُفُوذِهِ وَبَقَاءِ الْإِذْنِ مُشْكِلٌ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ الْعَامِلَ يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الْعُقُودُ اللَّازِمَةُ فَمَا كَانَ مِنْهَا لَا يَتَمَكَّنُ الْعَبْدُ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ كَالْإِحْرَامِ فَهُوَ مُنْعَقِدٌ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ إلَّا بِإِتْمَامِهِ أَوْ الْإِحْصَارِ عَنْهُ، وَمَا كَانَ الْعَبْدُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ وَالنُّفُوذِ فَهُوَ مُنْعَقِدٌ وَهُوَ النِّكَاحُ وَالْكِتَابَةُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ فَلِقُوَّتِهِمَا وَنُفُوذِهِمَا انْعَقَدَ الْعَقْدُ الْمُخْتَصُّ بِهِمَا وَنَفَذَ فِيهِ وَتَبَعَهُمَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ فَفِي النِّكَاحِ يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَزِمَهُ نِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى وَجْهٍ وَيَسْتَقِرُّ بِالْخَلْوَةِ وَتَعْتَدُّ فِيهِ مِنْ حِينِ الْفُرْقَةِ لَا مِنْ حِينِ الْوَطْءِ وَتَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ فِيهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَفِي الْكِتَابَةِ تَسْتَتْبِعُ الْأَوْلَادُ وَالْأَكْسَابُ.
وَالثَّانِي: مَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَالْمَعْرُوفُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْغَصْبِ وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ النِّكَاحِ وَاعْتَرَضَهُ أَحْمَدُ الْحَرْبِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ وَقَالَ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ فَلِهَذَا صَحَّ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَلَكِنْ أَبُو الْخَطَّابِ قَدْ لَا يُسَلِّمُ انْعِقَادَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَلَا غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْمُجَامِعَ يَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ وَأَنَّ الطَّلَاقَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إنَّمَا يَقَعُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ فَمِنْ هُنَا حَسُنَ عِنْدَهُ هَذَا التَّخْرِيجُ إذْ الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ فِي هَذَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ وَأَبْدَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي عُمَدِهِ احْتِمَالًا بِنُفُوذِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَالطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ قَالَ وَيُفِيدُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ لَا يُؤَثِّرُ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ وَجْهَيْنِ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَالطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بِأَنَّ الطَّلَاقَ يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ نَفْسِهِ فَنَفَذَ بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ وَهُوَ الْبَائِعُ وَهَذَا كُلُّهُ يُشْعِرُ بِانْعِقَادِ الْبَيْعِ وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُصُولِهِ احْتِمَالَيْنِ فِيمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ فَفَعَلَ هَلْ يَنْفُذُ عِتْقُهُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ الْآمِرِ لَهُ وَلَكِنَّ هَذَا عَقْدٌ مَوْضُوعٌ لِلْعِتْقِ وَالْمِلْكُ تَابِعٌ [لَهُ] فَهُوَ كَالْكِتَابَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ إنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مُسْتَنِدٌ إلَى الْإِذْنِ كَمَا فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ إذَا فَسَدَتْ، قِيلَ: ذَلِكَ لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْبَيْعَ وُضِعَ لِنَقْلِ الْمِلْكِ لَا لِلْإِذْنِ وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ تُسْتَفَادُ مِنْ الْمِلْكِ لَا مِنْ الْإِذْنِ بِخِلَافِ الْوِكَالَةِ فَإِنَّهَا كَصَادْ لِلْإِذْنِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ أَذِنَ لِوَكِيلِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ لَهُ وَقَدْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ وَالْبَائِعُ إنَّمَا أَذِنَ لِلْمُشْتَرِي فِي التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ بِالْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ هَهُنَا.
(وَالثَّانِي) : أَنَّ الْإِذْنَ فِي الْبَيْعِ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ عِوَضِهِ فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ الْعِوَضُ انْتَفَى الْإِذْنُ وَالْوِكَالَةُ إذْنٌ مُطْلَقٌ بِغَيْرِ شَرْطٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute