ثم إنك لتجد في نثر العباقرة من كتاب العربية، كالجاحظ، وأبي حيان، وغيرهما عناية بالاسلوب، دون أن يكون قصد منهم أن يفيدوا من السجع، فقد عزفوا عن ذلك لانهم شعروا أن جمهرة أهل الكتابة قد أغرقوا في استعمال هذا اللون حتى استهلكوه، فكانت السجعة هدفا لهم على حساب المعنى، ثم إنهم توسعوا فيه، فكان منه السجع المعروف، والسجع المرصع، وغير ذلك. وقد يضيق القارئ ذرعا، وهو يقرأ طائفة من المقامات الحريرية أو خطب ابن نباتة، وذلك لغلوهما في استعمال هذا الضرب من فن الكتابة. ولقد أدى غلو أهل هذه القرون المتأخرة، باستعمال السجع في الكتابة، والتزام من خلفهم به إلى مطلع عصرنا هذا، إلى أن يتجنبه المتأدبون في عصرنا. لقد وجد أدباؤنا أن موضوعات الادب في هذا العصر غيرها في عصور سلفت، وأن للحضارة المعاصرة مواد كثيرة ينبغي للاديب أن تكون له أدوات جديدة للاعراب عنها، وعلى هذا لا يكون للاسلوب الملتزم بالسجع مكان في هذا الادب الجديد. ثم جاء شعراؤنا الجدد وجلهم شباب متطلع للجديد، مأخوذ بما في الحضارة المعاصرة من فكر جديد مفيد، ولكنه لم يتزود بالزاد الكافي من هذه الالوان الجديدة، وكلها غريب وافد إلينا، قد نحس فينا حاجة إلى هذا الجديد، وقد نحس أن ليس لنا غنى عن الاخذ بالالوان الادبية في مغرب الدنيا ومشرقها، ولكننا في الوقت نفسه لم نهتد إلى معرفة ما نملك من إرث سخي قديم، وما أظن أن الاخذ بالوافد الجديد يفرض علينا أن نقطع صلتنا بأصول عزت أرومة وطابت مغرسا. ولعل إخواننا هؤلاء قد فاتهم أن يعرفوا أن للحضارة مسيرة، وأن الجديد النافع لا بد له أن يقوم على قديم مفيد. ذهب الشعراء الشبان إلى أن الشعر، بأوزانه المعروفة. وقوافيه شئ عتيق لا بد أن يصار منه إلى نماذج جديدة - يرى هؤلاء أن الوعاء القديم لا يتسع للفكر الجديد، ولكنك تتلمس أوعيتهم الجديدة فلا تستطيع أن تلمس شيئا من جدة الفكر، ونصاعته، فأين الموضوع؟ أن كثيرا من هذه النماذج التي لا يريد أصحابها أن تسمى قصائد غامض مبهم، غير أن هذا الغموض وذاك الابهام لا يترشح منه شئ مما يقال عنه إنه فكر جديد. وقد شاء أصحابنا من الشبان المتأدبين أن يدعوا شعرهم ب " الحر " وأن ما كان موزونا مقفى ب " العمودي " وأنهم أساءوا فهم " العمود الشعري " فصار عندهم الالتزام بالوزن والقافية، ولم يكن " عمود الشعر " عند النقاد الاقدمين شيئا من هذا، ولو أنهم رجعوا إلى ما كتبه المرزوقي في الموضوع لاهتدوا إلى ذلك، وإلى ما كتبه ابن طباطبا العلوي في " عيار الشعر ". كأنهم شعروا أن التزام الوزن والقافية الواحدة عقبة تحول دون إدراك ما يبتغون من صيرورة أدبهم الجديد مادة جديدة في موضوعها، ولم يتأت لهم هذا، وأنى لهم، والبضاعة