للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ورأى الآخرون أنّ توهم الجهال كونه خطابًا حقيقيًا بعيد؛ لأن القرائن العقلية والعادية والشرعية الصارفة عن الحقيقة واضحة، والناس يقولون إلى الآن: "رحمك الله يا فلان"، ويكون فلان قد مات منذ زمان ودفن بعيدًا عن القائل بمراحل، والقائل لا يشك أن فلانًا لا يسمعه، وإنما أراد رحم الله فلانًا، وذكر الله فلانًا بخير، ولكنه أتى بلفظ الخطاب دلالة على شدة استحضاره فلاناً في ذهنه، والقرينة الدالة على أن الخطاب هنا مجاز هي ما عرفه الناس من العادة أنّ الغائب والميت لا يسمع، وذكْرُ الميت بلفظ الخطاب لا تكاد تخلو منه مرثية من مراثي العرب ...

بل كثيرًا ما يخاطبون الجمادات والمعاني، وفي الحديث: «يا أرض ربي وربك الله»، وفيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمكة: «والله إنكِ لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله ... » الحديث. وقوله لها: «ما أطيبك من بلد»، وقول عمر للحجر الأسود: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ... » الحديث.

ومثل هذا لم يكن يشتبه على أحد في القرون الأولى، ولكن حال الحال وترأس الجهال. وإلى الله المشتكى" (١).

وقال أيضًا: "وقوله [أي: الأعمى] يا محمد، إن كان خطابًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بحضرته فلا حجة فيه للمخالف.

وإن كان علّمه أن يقول ذلك بعيدًا عنه أي بحيث لا يسمعه عادة، فسياق الدعاء ظاهر في أنه لا يراد من ذلك إسماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا حقيقة الخطاب، وإنما هو من المجاز الذي تقدم ذكره.

ومن القرينة على ذلك أنه لم يقع في متن الدعاء طلب شيء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكأن أصل المعنى: اللهم إني أتوجه إليك بمحمد في حاجتي. وإنما عدل إلى الخطاب إشارة إلى أنه ينبغي للداعي بهذا الدعاء أن يكون مستحضرًا لفضيلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكرامته على ربه حق، كأنه حاضر أمامه.

وعلى هذا المجاز يحمل ما يروى أن عثمان بن حنيف علّم رجلاً هذا الدعاء في خلافة عثمان، وما يروى من دعاء بعض التابعين بنحوه.

وعلى كل حال فليس في الدعاء سؤال شيء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما السؤال من الله تعالى.

وأما ما فيه من التوسل أي: سؤال الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فتلك مسألة أخرى ليس فيها سؤال من غير الله عز وجل.

ومن منع هذا التوسل لم يقل إنه عبادة لغير الله تعالى، ولا شرك، وغايته أن يقول هو حرام.

وممن منع هذا التوسل سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام الشافعي إلا أنه استثنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم معلقًا ذلك بصحة الحديث.


(١) المصدر السابق (ص: ٤٢٨ - ٤٢٩).

<<  <   >  >>