للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقال أيضًا عند تفسيره لقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ}: "وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {مِنْ دُونِ اللهِ} كَائنينَ مِنْ دُونِ اللهِ، أَوْ حَالَ كَوْنِكُمْ مُتَجَاوِزِينَ بِذَلِكَ تَوْحِيدَ اللهِ وَإِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ.

فَهَذَا التَّعْبِيرُ يَصْدُقُ بِاتِّخَاذِ إِلَهٍ أَوْ أَكْثَرَ مَعَ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ الشِّرْكُ، فَإِنَّ عِبَادَةَ الشِّرْكِ الْمُتَّخَذِ غَيْرُ عِبَادَةِ اللهِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ الْمُشْرِكُ أَنَّ هَذَا الْمُتَّخَذَ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ بِالِاسْتِقْلَالِ وَهُوَ نَادِرٌ، أَوِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ بِإِقْدَارِ اللهِ إِيَّاهُ وَتَفْوِيضِهِ بَعْضَ الْأَمْرِ إِلَيْهِ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ، أَوْ بِالْوَسَاطَةِ عِنْدَ اللهِ، أَيْ بِحَمْلِهِ تَعَالَى بِمَا لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ وَالْكَرَامَةِ عَلَى النَّفْعِ وَالضَّرِّ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ عِنْدَ الْبَعْثَةِ كَمَا حَكَى الله عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} " (١).

وقال أيضًا: "وأما مشركو العرب في زمن البعثة فلم يكونوا يجهلون أنّ هذا [أي: دعاء غير الله والاستشفاع به] كله يسمى عبادة؛ لأن اللغة لغتهم، ولم يكن لهم عرف ديني مخصص لعموم العبادة اللغوي، ولا باعث على التأويل أو التحريف، فكانوا يصرحون بأنهم يعبدون أصنامهم ويسمونها آلهة; لأن الإله هو المعبود وإن لم يكن ربا خالقا، ويقولون كما أخبر الله عنهم {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} ويسمونهم أولياء أيضًا {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} الآية.

وقد فعل أهل الكتاب ومن اتبع سننهم من المسلمين مثل ذلك ولكن سموه توسلا، وأنكروا تسميته عبادة، والتسمية لا تغير الحقائق، وكذلك تغيير المعبودات من البشر والملائكة وما يذكر بها من صورة وتمثال أو قبر أو تابوت كالتابوت الذي يتخذه بعض أهل الهند للشيخ الصالح عبد القادر الجيلاني، فكل تعظيم ديني لهذه الأشياء أو الأشخاص بما ذُكر أو غيره مما لم يرد به شرع عبادة لها، وإشراك مع الله عز وجل من حيث ذاته، ومن حيث كونه شرعا لم يأذن به الله" (٢).

وقال أيضًا: "فمن دعا إلى عبادة نفسه فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله وإن لم ينههم عن عبادة الله، بل وإن أمرهم بعبادة الله.

ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء فقد عبد هذه الواسطة من دون الله; لأنّ هذه الوساطة تنافي الإخلاص له وحده. ومتى انتفى الإخلاص انتفت العبادة، ولذلك قال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}، فلم يمنع توسلهم بالأولياء إليه تعالى أن يقول: إنهم اتخذوهم من دونه.


(١) تفسير المنار (٧/ ٢١٩).
(٢) المصدر السابق (٨/ ١٢٨ - ١٢٩).

<<  <   >  >>