والصحابة عاكسوه في ذلك وخالفوه لزم أنهم- وحاشاهم من ذلك- تصرفوا في القرآن بالزيادة والنقصان، ووقعوا فيما أجمعوا هم وغيرهم على ما لا يحل لأحد فعله، ولزم تطرق الشك إلى جميع ما بين الدفتين، لأنا مهما جوزنا أن تكون فيه حروف ناقصة، أو زائدة، على ما في علم النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ما عنده، وأنها ليست بوحي، ولا من عند الله، ولا نعلمها بعينها، شككنا في الجميع، ولئن جوزنا للصحابي أن يزيد في كتابته حرفا ليس بوحي لزمنا أن نجوز لصحابي آخر نقصان حرف من الوحي إذ لا فرق بينهما، وحينئذ تنحل عروة الإسلام بالكلية، ثم قال ابن المبارك بعد كلام: فقلت له: فإن كان الرسم توقيفيا بوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كألفاظ القرآن، فلم لم ينقل تواترا حتى ترتفع عنه الريبة، وتطمئن به القلوب كألفاظ القرآن فإنه ما من حرف إلا وقد نقل متواترا لم يقع فيه اختلاف ولا اضطراب، وأما الرسم فإنه إنما نقل بالآحاد كما يعلم من الكتب الموضوعة فيه، وما نقل بالآحاد وقع الاضطراب بين النقلة في كثير منه، قلت: وكيف تضيع الأمة شيئا من الوحي فقال: ما ضيعت الأمة شيئا من الوحي والقرآن بحمد الله محفوظ ألفاظا ورسما؛ فأهل العرفان والشهود والعيان حفظوا ألفاظه ورسمه، ولم يضيعوا منها شعرة واحدة، وأدركوا ذلك بالشهود والعيان الذي هو فوق التواتر، وغيرهم حفظوا ألفاظه الواصلة إليهم بالتواتر، واختلافهم في بعض الحروف في الرسم لا يقدح ولا يصير الأمة مضيعة له كما لا يضر جهل العامة بالقرآن وعدم حفظهم لألفاظه.
الرأي الثالث وهو أنه يجوز كتابة المصحف الآن لعامة الناس على الاصطلاحات المعروفة الشائعة، ليكون أبعد عن اللبس والخلط في القرآن، ولكن يجب في الوقت ذاته المحافظة على الرسم العثماني كأثر من الآثار الإسلامية النفيسة الموروثة عن السلف الصالح، فلا يهمل مراعاة للجاهلين بل يجب أن يبقى في أيدي العلماء العارفين الذين لا تخلو منهم الأرض، وإلى هذا الرأي ذهب الإمام ابن عبد السلام، وتابعه صاحب البرهان.