للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عرض الكشف والإلهام على الكتاب والسنة]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فـ عمر منهم).

وروى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر).

وفي حديث آخر: (إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه) رضي الله عنه.

وفيه: (لو كان نبي بعدي لكان عمر).

وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر].

يعني: أن الله أنزل سكينة في قلبه جعلها تظهر على لسانه، وثبت هذا عنه من رواية الشعبي.

[وقال ابن عمر: ما كان عمر يقول في شيء: إني لأراه كذا إلا كان كما يقول.

وعن قيس بن طارق قال: كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك] أي: ملك يسدده.

[وكان عمر يقول: اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه تنجلي لهم أمور صادقة.

وهذه الأمور الصادقة التي أخبر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها تتجلي للمطيعين: هي الأمور التي يكشفها الله عز وجل لهم، فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات ومكاشفات، فأفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ فإن خير هذا الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما.

وقد ثبت في الصحيح تعيين عمر بأنه محدث في هذه الأمة، فأي محدث ومخاطب فرض في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فـ عمر أفضل منه، ومع هذا فكان عمر رضي الله عنه يفعل ما هو الواجب عليه، فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر؛ كما نزل القرآن بموافقته في غير مرة، وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك؛ كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين، والحديث معروف في البخاري وغيره؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اعتمر سنة ست من الهجرة، ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة، وهم الذين بايعوه تحت الشجرة، وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم على أن يرجع في ذلك العام ويعتمر من العام القادم، وشرط لهم شروطاً فيها نوع غضاضة على المسلمين في الظاهر، فشق ذلك على كثير من المسلمين، وكان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة، وكان عمر فيمن كره ذلك حتى قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا رسول الله! -صلى الله عليه وسلم- ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه، ثم قال: أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به، أو نطوف به؟ قال: بلى، قال: أقلت لك: أنك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: إنك آتيه ومطوف به) فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر مثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أبو بكر قد سمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله عليه وسلم من عمر، وعمر رضي الله عنه رجع عن ذلك، وقال: فعملت بذلك أعمالاً.

كذلك لما مات النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عمر موته أولاً، فلما قال أبو بكر: إنه مات رجع عمر عن ذلك.

وكذلك في مانعي الزكاة قال عمر لـ أبي بكر: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟ فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألم يقل: إلا بحقها؟ فإن الزكاة من حقها، والله! لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فوالله! ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه حق)].

يقصد من ذلك أن عمر رضي الله عنه كان يرجع عما يقع في قلبه من أمور امتثالاً لما ورد في الشرع، فهذا هو الواجب على كل أحد.

وعندما مات النبي كان يظن أنه أغمي عليه وسوف يرجع مرة أخرى، فأسكته أبو بكر فلم يسكت، فجاء أبو بكر فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات.

فبمجرد ما إن قرأ أبو بكر الآية قعد عمر على الأرض وهدأ.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر رضي الله عنهما، مع أن عمر رضي الله عنه محدَّث؛ فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث]، ومعنى محدث أي: تحدثه الملائكة، وتقذف في قلبه شيئاً، وهناك واعظ من الله عز وجل في قلب كل مؤمن، والمحدثون ربما يسمعون الخطاب مباشرة أو يلقى في قلوبهم، وهذا التحديث أرفع من عامة المؤمنين، وأرفع من مرتبة التحديث مرتبة الصديق.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم كل ما يقوله ويفعله، والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم]، ومن هنا نعرف أن إثبات كرامة الإلهام والكشف والتحديث ليس معناه إثبات أنها من مصادر التشريع؛ لأنها قابلة للخطأ والصواب، فلا بد أن تعرض على الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهي في الحقيقة يستأنس بها ولا يستدل بها -كما ذكرنا- بل القياس يقدم على التحديث والإلهام ونحو ذلك؛ لأن القياس الصحيح مرده إلى الوحي، وغلبة الظن في صحته أقوى من غلبة الظن في صحة الإلهام أو الكشف.

والكشف: أن يكشف الله عز وجل له أموراً غابت عن غيره.

كما وقع لـ عمر بقوله: يا سارية الجبل! فقد انكشف له أنهم لو لجئوا إلى الجبل لنجاهم الله عز وجل.

وأعظم من درجات الكشف الكشف عن الحق، وانشراح صدر أبي بكر للقتال كان كشفاً، فهو كشف عن الحق بأدلته الظاهرة بأن يقع في قلبه أن الأمر سيكون كذلك.

وقد يكون منه الاستخارة، فقد يكون فيها انشراح الصدر لأمره، ولكن هذه يستأنس بها ولا يستدل بها، فمثلاً: كان شيخ الإسلام يجزم في بعض الوقائع مع التتار أن المسلمين ينتصرون في هذه الواقعة، وأنهم يردون التتار؛ وذلك للصفات الموجودة في المسلمين التي تغيرت عما كانت عليه فتوقع لهم النصر، بل كان يجزم بذلك وكانوا يقولوا له: قل: إن شاء الله، ويقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، ولا بد أن يعلق الأمر بمشيئة الله؛ لأن ظن الإنسان قابل للخطأ والصواب.

والكشف والإلهام باب واحد، فكلاهما من أنواع العلوم التي تقع في القلوب.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم ويناظرهم، ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويقررهم على منازعته] كما حصل مثلاً مع عمار عندما أنكر عمر التيمم للمحدث حدثاً أكبر فذكره عمار يوم حصلت له الجنابة فتمرغ عمار في التراب، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يكفيك أن تضرب بكفيك الأرض ثم تمسح بوجهك وكفيك) فـ عمر رضي الله عنه لم يكن يتذكر هذه الواقعة وترك عمار يحدث بذلك، لكنه حذره من الخطأ ونحو ذلك.

والمقصود أن عمر رضي الله عنه أقرهم على مناظرته وعلى كونهم ينازعونه ويناظرونه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يقول لهم: أنا محدَّث، ملهم، مخاطب؛ فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني].

وهذا هو الفرق في الإلهام عند أهل السنة وعند الصوفية، فالصوفية يقولون: كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل، ومن اعترض يطرد ونحو ذلك، فلا يوجد عندهم احتمال أصلاً لمناقشة الشيخ ولو أتى بالمنكرات، ويعد فعل الشيخ مهما كان هذا الفعل من المنكرات لسر بينه وبين الله عز وجل، فيكون هذا من الطاعات العمياء التي قد تصل بصاحبها إلى الكفر والعياذ بالله.

<<  <  ج: ص:  >  >>