[مما يقوي الأحوال الشيطانية]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:٣٥] قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما وغيرهما من السلف: التصدية: التصفيق باليد، والمكاء: مثل الصفير، فكان المشركون يتخذون هذا عبادة.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر والدعاء ونحو ذلك والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم على استماع غناء قط لا بكف ولا بدف، ولا تواجد ولا سقطت بردته بل كل ذلك كذب باتفاق أهل العلم بحديثه.
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لـ أبي موسى الأشعري: ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون.
(ومر النبي صلى الله عليه وسلم بـ أبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له: مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك.
فقال: لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً) أي: لحسنته لك تحسيناً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لله أشد أذناً -أي: استماعاً- إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته) -من صاحب الأغنية إلى مغنيته- وقال صلى الله عليه وسلم لـ ابن مسعود: (اقرأ علي القرآن فقال: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى انتهيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:٤١] قال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان من البكاء).
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكره الله في القرآن فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:٥٨].
وقال في أهل المعرفة: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:٨٣].
ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين، فقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:٢٣].
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:٢ - ٤].
وأما السماع المحدث: سماع الكف والدف والقصب فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأكابر من أئمة الدين يجعلون هذا طريقاً إلى الله تبارك وتعالى، ولا يعدونه من القرب والطاعات، بل يعدونه من البدع المذمومة حتى قال الشافعي: خلفت ببغداد شيئاً أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن].
يعني: ولو سمعنا فسنستمع إلى الإنشاد الذي سيرقق قلوبنا، لكنهم لا يجعلونه من العبادات، ولكن أقصاها الإباحة في أحوال معينة، وليس أن هذا عبادة من العبادات أو طريقة من الطرق، وهذا رد على طرق الصوفية المتبعة التي تجعل هذه الحضرات والجلسات سبيلاً إلى التقرب إلى الله عز وجل، وكذا كثير من الجماعات المعاصرة التي تجعل هذا السماع أحد الوسائل الأساسية في التربية والتوجيه كما ذكره الأستاذ سعيد حوى في كتاب تربيتنا الروحية، وذكر فصلاً في السماع، ويقصد بذلك تربية وتوجيهاً أصلاً لفرق الإنشاد التي تقول الأشعار الطيبة ونحو ذلك على أن ذلك وسيلة لترقيق القلوب ونحو ذلك.
فينبغي أن يستعمل هذا الأمر المباح عند الحاجة كأن يكون في السفر، أو عند الجهاد مثلاً، فيقول أشعاراً ليحمس الناس، أو يكون ذلك مثلاً في العرس، أو في يوم العيد، أما أن يكون هذا طريقاً إلى الله عز وجل فهذا ليس أمراً محموداً، ولا بد أن يكون هذا الفعل بضوابط منها: أن تكون ألفاظ النشيد صحيحة ليس فيها شرك ولا غلو وبدون آلات لهو.
فـ ابن تيمية يخبر أن السلف لم يكونوا يعدونه من القرب والطاعات، بل يعدونه من البدع المذمومة، حتى قال الشافعي: خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن.
والتغبير: هو هذا الإنشاد أو نوع من أنواع الضرب بآلات اللهو.