للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أصحاب الأحوال الشيطانية المخالفة للأحوال الإيمانية]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية، مثل حال عبد الله بن صياد الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال] أي: أن عمر رضي الله عنه كان يقسم أن ابن صياد هو الدجال.

ثم قال: [وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال].

وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم صدق تميماً فيما أخبره من أن الدجال موجود في إحدى جزر البحر جهة المشرق، وهذا تنافى مع كونه ابن صياد، ولكن ابن صياد يعتبر دجالاً من الدجاجلة، لكن ليس هو المسيح الدجال وإن كان قد أخبر أنه يعرف الدجال وأمه وأباه، ويعرف مولده ومقاله، وأين هو الآن.

فالدجال صادق وكاذب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لبس عليه، وقال: أرى عرشاً على الماء)، أي: أن هذا من توهيم الشيطان له، فظن أن عرش إبليس الذي رآه على الماء هو عرش الرحمن، يعني: ليظن أن ما يراه من تلبيسات الشياطين هي أحوال رحمانية، كمن ظن رجل من أهل الضلال أنه رأى الله عز وجل، وهو إنما رأى الشياطين، وهكذا كان ابن صياد يرى عرش إبليس على الماء، فظن أنه عرش الرحمن عز وجل؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:٧].

وهو في الحقيقة إنما يرى عرش إبليس على البحر.

ثم قال: [وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال، لكنه كان من جنس الكهان قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (قد خبأت له خبئاً، قال: الدخ الدخ، وقد كان خبأ له سورة الدخان)].

وربما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك فلم يلتقط قرينه إلا الدخ، فألقاها على ابن صياد، فلم يعرف ابن صياد أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ما خبأه له إلا ما سمعه من القرين، وهو: الدخ.

ثم قال: [فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اخسأ فلن تعدو قدرك)، يعني: إنما أنت من إخوان الكهان.

والكهان كأن يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات مما يسترقه من السمع، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة تنزل في العنان -وهو السحاب- فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم).

وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من الأنصار، إذ رمي بنجم فاستنار - أي: عمل إضاءة قوية ساعة وصوله إلى الأرض- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه؟ قالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء، ثم يسأل أهل السماء السابعة حملة العرش: ماذا قال ربنا؟ فيخبرونهم، ثم يستخبر أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا، وتخطف الشياطين السمع فيرمون، فيقذفونه إلى أوليائهم، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون).

وفي رواية: قال: معمر: قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكنها غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم].

أي: أنه كما دلت عليه آيات القرآن فقال عز وجل عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:٨ - ٩]، أي: منعت الجن من السماع؛ وذلك حماية للوحي، وحتى لا يأخذوا شيئاً منه إلى أحد من الكهان، وهذا الذي ظهر من الكهان إنما يسترق لهم الشياطين السمع ليخبروهم ببعض هذه المغيبات.

ثم يقول: [والأسود العنسي الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة، فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته، لما تبين لها كفره فقتلوه.

وكذلك مسيلمة الكذاب، كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات، ويعينه على بعض الأمور.

وأمثال هؤلاء كثيرون مثل الحارث الدمشقي، الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان، وادعى النبوة، وكانت الشياطين تخرج رجليه من القيد، وتمنع السلاح أن تنفذ فيه، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده، وكان يري الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء، ويقول: هي الملائكة، وإنما كانوا جناً، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه، فقال له عبد الملك: إنك لم تسم الله، فسمى الله وطعنه فقتله.

وهكذا أهل الأحوال الشيطانية، تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها، مثل: آية الكرسي، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر، فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة، وهو يمسكه فيتوب فيطلقه، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ فيقول: زعم أنه لا يعود، فيقول: كذبك وإنه سيعود، فلما كان في المرة الثالثة قال: دعني حتى أعلمك ما ينفعك، إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:٢٥٥] إلى آخرها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: صدقك وهو كذوب)، وأخبره أنه شيطان.

ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها، مثل من يدخل النار بحال شيطاني، أو يحضر سماع المكاء والتصدية فتنزل عليه الشياطين] يعني: يتواجدون عند سماع الأناشيد ويسمى بـ (الحضرة).

ثم قال: [وتتكلم على لسانه كلاماً لا يعلم، ربما لا يفقه، وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة، كما تتكلم الجن على لسان المصروع، والإنسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس، ولبسه وتكلم على لسانه، فإذا أفاق لم لا يشعر بشيء مما قال، ولهذا قد يضرب المصروع ضرباً كثيراً حتى قد يقتل مثله الإنسي أو يمرضه لو كان هو المضروب، وذلك الضرب لا يؤثر في الإنسي، ويخبر إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء من الضرب؛ لأن الضرب كان على الجني الذي لبسه.

ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع].

وقد أخبرني من أثق به عن الأحوال الشيطانية هذه، فقال: إن بعض النعوش طارت بالميت، وكان هناك شيخ سني قام فأمسك بقائمة النعش وقرأ آية الكرسي، فحمل النعش إلى المقابر بدون أدنى حركة.

وأيضاً أخبرني بأن ممسوساً كان له علاقة بجني، فكانوا عندما يحتاجون إلى المال يأتيهم الجني بالمال، وبعد أن يأخذوا حاجتهم ويضعوه مثلاً تحت المخدة، أو فوق الثلاجة، فإذا قاموا لا يجدونه في مكانه، فكأن الجني كان يسرقه ثم يرجعه مرة أخرى.

ثم يقول: [ومنهم من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما] أي: أن طلب الاستعانة من الجن لا تجور؛ لأنها من الأحوال الشيطانية، لكن لو سمع شيئاً من غير طلب، وكان أمراً مباحاً جاز لنا أن ننتفع به، ولكن ليس لنا أن نطلب من الجني أن يفعل شيئاً، ولا أن نستخبره على أشياء؛ لأنه قد يخبرنا بأشياء لا نعرف صدقه من كذبه.

كذلك قضية الاستخبار أو قضية الاستعانة، وطلب فعل الأشياء، قد جعلها شيخ الإسلام من الأحوال الشيطانية، فقال: ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى، وهذه الأشياء مباحة في الأصل.

ومع ذلك أصبحت من الأحوال الشيطانية؛ لأن من يحصل لهم مثل ذلك يلبسون على الناس كثيراً جداً، ويقولون للناس: عندنا جن من المسلمين نستعين بهم من أجل معالجة المرضى، ويستدلون على جواز ذلك بقصة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ابن صياد لكن نقول لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن أشياء من أجل أن يعرف صدق ابن صياد من كذبه، ومعرفة حاله ومن يأتيه ونحو ذلك، فالذي عنده قدرة على ذلك، ويستطيع أن يسأل هذا الجني فليفعل، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما سأل ابن صياد امتحاناً له وتعرفاً عليه، وليس طلباً لإخبار غيبيات كما يفعل كثير من المشعوذين.

ثم يقول: [ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته، فلا يحج حجاً شرعياً، بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات ولا يلبي، ولا يقف بمزدلفة، ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يرمي الجمار، بل يقف بعرفة بثيابه، ثم يرجع من ليلته، وهذا ليس بحج مشروع باتفاق المسلمين، بل هو كمن يأتي الجمعة ويصلي بغير وضوء وإلى غير القبلة.

ومن هؤلاء المحمولين من حمل مرة إلى عرفات ورجع فرأى في النوم ملائكة يكتبون الحجاج، فقال: ألا تكتبوني؟ فقالوا: لست من الحجاج، يعني: لم تحج حجاً شرعياً.

<<  <  ج: ص:  >  >>