[كلام مشايخ الصوفية الحقة في الولاية]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كقول الشيخ أبي سليمان الداراني: إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة].
قوله: (النكتة) أي: الفائدة ونحو ذلك، ولذلك عندما نعرض مثلاً بعض المنازل التي يعدونها من منازل الفضل إذا عرضناها على الكتاب والسنة وجدناها لا حقيقة لها ولا أصل لها كالدهش والهيمان والسكر المعدودة عندهم من مقدمات الفناء؛ فإن هذا لا يدل عليها شيء من كتاب ولا سنة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا، أو قال: لا يقتدى به].
فمثلاً إنسان فقأ عينه لما نظر إلى امرأة، نقول: إن هذا أمر محرم، فلا يجوز أن يفقأ الإنسان عينه؛ لأجل أنه نظر إلى امرأة محرم عليه أن ينظر إليها، فيعاقبها بذلك؛ لأن هذا لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولأن هذا إفساد لما وهبه الله عز وجل، وليس من حقه أن يفعل ذلك، مع أن هذا كان غرضه غض البصر ونحو ذلك، فيقول: علمنا هذا -أي علم تهذيب النفوس وعلم أحوال القلوب- لا بد أن يعرض على الكتاب والسنة كسائر أنواع العلوم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عثمان النيسابوري: من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:٥٤].
وقال أبو عمرو بن نجيد: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل].
والوجد: ما يجده السالك في قلبه من رقة وميل إلى المحبة ونحو ذلك، أو منازل من أحوال العباد قد تقع في قلبه فهو ينظر إلى هذه الأحوال ويعرضها على الكتاب والسنة وإذا خالفها كان باطلاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي لله، ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يقوله، ويسلم إليه كل ما يفعله وإن خالف الكتاب والسنة، فيوافق ذلك الشخص له، ويخالف ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشقياء، فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين وجنده المفلحين وعباده الصالحين، ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولاً إلى البدعة والضلال، وآخراً إلى الكفر والنفاق والعياذ بالله، ويكون له نصيب من قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:٢٧ - ٢٩]، ومن قوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:٦٦ - ٦٨].
وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:١٦٥ - ١٦٧].
وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:٣١].
وفي مسند الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسيره هذه الآية: لما سأل صلى الله عليه وسلم عنها فقال: (ما عبدوهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحرام فأطاعوهم وكانت هذه عبادتهم إياهم).
ولهذا قيل في مثل هؤلاء: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول؛ فإن أصل الأصول تحقيق الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الإيمان بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، وعربهم وعجمهم، وعلمائهم وعبادهم، وملوكهم وسوقتهم، وأنه لا طريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطناً وظاهراً حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:٨١ - ٨٢].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٠ - ٦٥].
وكل من خالف شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مقلداً في ذلك من يظن أنه ولي لله فإنه بنى أمره على أنه ولي لله، وأن ولي الله لا يخالف في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان لن يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك؟! وتجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه ولياً لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحياناً، أو يملأ إبريقاً من الهواء] أي: إبريقاً فارغاً يملأه ماءً من الهواء من غير محل.
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [أو ينفق بعض الأوقات من الغيب] بمعنى أنه يخبر بعض الأوقات عن أمور قد تكون غيبية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أو أن يختفي أحياناً عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم، أو مريض أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه.
وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها ولياً لله فقد يكون عدواً لله] يعني: من صار عندهم من ذلك أشياء يخدعون بها عوامهم، كالبوذيين والهندوس وغيرهم ممن يقوم بأعمال السحر.