[حال أولياء الله وذكر ما صاروا به أولياء]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنْ حَالِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَمَا صَارُوا بِهِ أَوْلِيَاءَ، فَفِي صَحِيحِ البخاري عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: (يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عليه، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَني لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ).
فَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى دَرَجَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: التَّقَرُّبُ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ.
وَالثَّانِيَةُ: هِيَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ.
فالْأُولَى دَرَجَةُ الْمُقْتَصِدِينَ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ.
وَالثَّانِيَةُ دَرَجَةُ السَّابِقِينَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:٢٢ - ٢٦].
قَالَ ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا وَيَشْرَبُهُ الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقَى اللَّهَ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ.
] بيّن المؤلف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن حال أولياء الله وما صاروا إليه، وذكر الحديث القدسي الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)، هذا حديث قدسي منسوب إلى قدسية الله، يعني: كونه كلام الله لفظاً ومعنى كالقرآن، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه فيقول: يقول الله تعالى.
فهو من كلام الله لفظاً ومعنى مثل القرآن، إلا أن له أحكاماً تختلف عن القرآن، بخلاف الحديث غير القدسي فهو من النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً ومن الله معنى، أما الحديث القدسي فهو من الله لفظاً ومعنى، ولهذا يرويه النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)، فهذا الحديث القدسي بين فيه الرب سبحانه وتعالى حال الأولياء ومنزلتهم، فقال: (يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ)، وفي لفظ: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وهذا فيه الوعيد الشديد على من عادى أولياء الله، والولي كما سبق هو المؤمن التقي، أي: من عادى المؤمن التقي فقد بارز الله بالمحاربة، وفي لفظ: (فقد آذنته بالحرب)، وهذا وعيد شديد لمن آذى المؤمنين المتقين، وأنه على خطر عظيم؛ لأنه محارب لله، ومن حارب الله فهو هالك.
فقوله: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) هذه بشارة للمؤمن التقي، وهي أن الله يدفع عنه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:٣٨]، لأن من عادى ولي الله فهو مبارز لله بالحرب، ثم يقول الرب سبحانه: (وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه) يعني: أن أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله هو أن يؤدي الفرائض، والفرائض هي: الصلوات الخمس والزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام وبر الوالدين وصلة الرحم وهكذا.
ثم قال الرب سبحانه: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) يعني: فيه أن العبد إذا تقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض صار من أحباب الله، مثلاً: يتقرب إلى الله بأداء الصلوات الخمس ثم يتقرب إلى الله بأداء السنن الرواتب، وهي: أربع ركعات قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، ويتقرب إلى الله بصلاة الضحى، ويتقرب إلى الله بصلاة الليل، وسنة الوضوء، وتحية المسجد، كل هذه من النوافل.
كذلك يتقرب إلى الله بالصدقة بعد أداء الزكاة.
كذلك تتقرب إلى الله بعد صيام رمضان بصيام التطوع صيام الإثنين والخميس صيام أيام البيض صيام ست من شوال صيام تسع من ذي الحجة صيام التاسع والعاشر من شهر محرم.
كذلك الحج تؤدي الفريضة ثم تحج نافلة.
إذاً: إذا تقرب العبد إلى الله بالنوافل بعد الفرائض صار من أحباب الله، وإذا صار من أحباب الله يحصل له ما قال الرب سبحانه: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَني لَأُعِيذَنَّهُ) هذه كلها آثار ناتجة عن كون العبد محبوباً لله، وقوله: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي) المعنى: أن الله يسدده في جوارحه: في سمعه وبصره ويده ورجله، فلا ينظر بعينيه إلى ما حرم الله؛ لأن الله سدده، ولا يسمع بأذنه ما حرم الله، ولا يتناول بيده ويبطش بيده ما حرم الله، ولا يمشي برجله إلى ما حرم الله؛ لأن الله سدده ووفقه، وليس كما يظن بعض الاتحادية الملاحدة، حيث استدلوا بهذا، قالوا: إن الله حل في العبد (فبي يسمع وبي يبصر) (كنت سمعه الذي يسمع به) قالوا: إن الله حل في العبد فصار سمعه، هذا قول الملاحدة الاتحادية، وهذا من أبطل الباطل، تقول: المعنى: أن الله يسدده في جوارحه، فلا يعمل بجوارحه ما يغضب الله، وإنما يستعملها في طاعة الله، وأيضاً مع ذلك: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) المعنى: أن الله يجيب سؤاله، ويعيذه مما استعاذ، ثم قال الرب سبحانه: (وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ) هذا التردد ليس كتردد المخلوق، المخلوق يتردد في الشيء؛ لضعفه وجهله وعدم علمه بالنتائج، أما هذا التردد فهو وصف يليق بالله وجلاله وعظمته، ليس فيه نقص، وإنما هو شيء يليق بجلال الله وعظمته، لا يشابه فيه أحداً من خلقه، وصف يليق بالله ليس كتردد المخلوق الذي يدل على ضعفه وجهله وعدم علمه بالنتائج أو بالعاقبة.
وذلك أن العبد يكره الموت والله تعالى يكره ما يكره عبده المؤمن، ولكن هذا التردد لا يمنع من تغليب إحدى الإرادتين، فتتغلب الإرادة التي قدرها الله، ولهذا قال: (ولا بد له منه) فالعبد يكره الموت والله تعالى يكره ما يسيء للعبد، ولكن لا بد من تغليب إحدى الإرادتين، فالله تعالى يريد للعبد الموت؛ لأنه قدره له، ويريد ما يريده عبده وهو كراهة الموت؛ لأن العبد يكره الموت، لكن لا بد من تغليب إحدى الإرادتين، وهو الموت؛ لأنه مقدر ولا بد له منه.
يقول المؤلف رحمه الله: (ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى دَرَجَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: التَّقَرُّبُ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ) هذه عرفناها (وَالثَّانِيَةُ: هِيَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، فَالْأُولَى دَرَجَةُ الْمُقْتَصِدِينَ.
وَالثَّانِيَةُ دَرَجَةُ السَّابِقِينَ) الأولى: درجة المقتصدين الذين تقربوا إلى الله بالفرائض فقط، والمقتصدون هم أصحاب اليمين الأبرار؛ لأنهم تقربوا إلى الله بالفرائض وهي الواجبات، ووقفوا عند هذا الحد، ما كان عندهم نشاط لفعل النوافل، وهؤلاء المقتصدون تركوا المحرمات فقط، لكن ليس عندهم نشاط لترك المكروهات كراهة تنزيه، فترى المقتصد يتوسع في المباحات، فهؤلاء يسمون المقتصدين الذين يدخلون الجنة لأول وهلة.
الدرجة الثانية: درجة السابقين المقربين، وهم الذين أدوا الفرائض، وكان عندهم نشاط ففعلوا المستحبات والنوافل، وتركوا المحرمات وكان عندهم نشاط فتركوا أيضاً المكروهات كراهة تنزيه، وتركوا التوسع في المباحات حتى لا يقعوا في المكروهات، هذه درجة عالية، فالسابقون هم أعلى درجة من القسم الأول، وكل من الصنفين يدخل الجنة من أول وهلة، وهناك درجة ثالثة للمؤمنين وهم الظالمون لأنفسهم، الذين يقصرون في بعض الواجبات ويفعلون بعض المحرمات، فهؤلاء ما فعلوا الشرك، لكن فعلوا بعض المعاصي، فهم على خطر من دخول النار، وعلى خطر من عذاب القبر، فقد يعذبون في قبورهم، وقد تصيبهم الأهوال والشدائد، وقد يسلمون وقد يعفى عنهم، وقد يدخلون النار وقد يمكثون فيها مدة طويلة، لكن في النهاية لا بد أن يدخلوا الجنة، وهؤلاء يسمون الظالمين لأنفسهم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم بالمعاصي.
وكل من الأصناف الثلاثة من أهل الجنة، لكن الصنفان الأول والثاني وهم المقتصدون والسابقون يدخلون الجنة من أول وهلة ولا يدخلون النار، أما الظالمون فهم على خطر، فقد يعفو الله عنهم، وقد يعذبون في قبورهم، وقد تصيبهم الأ