[تعريف الحكمة في القرآن]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال غير واحد من السلف: الحكمة: هي السنة؛ لأن الذي كان يتلى في بيوت أزواجه رضي الله عنهن سوى القرآن هو سنته صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) وقال حسان بن عطية: كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن].
فيما ذكر رحمه الله بيان أن السنة هي الحكمة؛ فإذا جاء أن الله أعطى النبي الحكمة، وأنزل عليه الحكمة، فالمراد به السنة المطهرة، لأنه كما قال: الذي يتلى في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم سوى القرآن هو السنة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب) يعني: القرآن (ومثله معه) وهو الوحي الذي أوحاه الله إليه، ومثله معه: وهي السنة المطهرة.
وقال حسان بن عطية: كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن فيعلمه إياها، كما يعلمه القرآن.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذه الشرائع التي هدى الله بها هذا النبي وأمته مثل: الوجهة، والمنسك، والمنهاج، وذلك مثل الصلوات الخمس في أوقاتها بهذا العدد، وهذه القراءة، والركوع والسجود، واستقبال الكعبة].
يعني: أن هذه الشرائع التي هدى الله بها هذا النبي وأمته فسرها لهم وأنزلها لهم مثل: الوجهة، ويقصد بها: التوجه إلى القبلة {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٤٤]، والمنسك: وهو العبادة، ويدخل في ذلك: الذبائح، كالعقيقة والهدي والأضحية، وقوله: المنهاج، أي: الطريق الذي سار عليه عليه الصلاة والسلام، ومثل بالصلوات الخمس في أوقاتها بهذا العدد، والكيفية، فهذا وما تقدم مما خص الله به هذه الأمة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومثل فرائض الزكاة ونصبها التي فرضها في أموال المسلمين من الماشية، والحبوب، والثمار، والتجارة، والذهب، والفضة، ومن جعلت له حيث يقول: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:٦٠]].
كل هذه أمثلة للشرائع التي هدى الله بها هذا النبي وأمته، وذكر منها هنا فرائض الزكاة ونصبها، ومعلوم أن الزكاة تجب في نصاب الذهب والفضة، وعروض التجارة ومقدارها ربع العشر، ويجب نصف العشر من نصاب الحبوب والثمار إذا كانت تسقى بمؤنة، والعشر إن كانت تسقى بغير مؤنة، هذا كله مما هدى الله به هذه الأمة، ومما يذكر عن الزكاة أيضاً الأنصبة، ومعلوم أن نصاب الذهب: عشرون مثقالاً، ونصاب الفضة: مائتا درهم، ونصاب المواشي من الغنم: أربعون، ونصاب البقر: ثلاثون، ونصاب الإبل: خمس، هذه كلها أمثلة لفرائض الزكاة، وأما قوله: ومن جعلت له، فيعني به: من هم أهلها أي: الذين يعطون الزكاة، وهم ثمانية أصناف ذكرهم الله في كتابه، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:٦٠].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومثل صيام شهر رمضان، ومثل حج البيت الحرام، ومثل الحدود التي حدها لهم في المناسك، والمواريث، والعقوبات، والمبايعات، ومثل السنن التي سنها لهم: من الأعياد والجمعات والجماعات في المكتوبات، والجماعات في الكسوف والاستسقاء، وصلاة الجنازة والتراويح].
وهنا ما زال المصنف رحمه الله يعدد أمثلة لما خص الله به نبيه وأمته، فذكر صيام شهر رمضان، وقد كان الصيام مكتوباً على من قبلنا، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣]، لكن تحديد شهر رمضان بالصيام هو من خصائص هذه الأمة، ومثل حج بيت الله الحرام، ومثل الحدود التي حدها لهم، فلا يتجاوزون حدوده في المناسك، والمواريث حيث جعل الله للأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، كما فرض الله تعالى أيضاً للآباء والأمهات، والإخوة والأخوات أنصبة في الأموال، وقوله: والحدود أي: التي حدها لهم في المناكح، والمواريث، والعقوبات، والمبايعات، كل هذه يجب أن يقف الإنسان عندها ولا يتجاوزها، وكذلك السنن التي سنها لهم: من الأعياد كالجمع والجماعات في المكتوبة من الصلوات المفروضة، وجماعات الكسوف، وجماعات الاستسقاء، وصلاة الجنازة، والتراويح، كل هذا مما هدى الله له هذه الأمة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وما سنه لهم في العادات مثل المطاعم والملابس والولادة والموت، ونحو ذلك من السنن والآداب والأحكام التي هي حكم الله ورسوله بينهم في الدماء والأموال والأبضاع والأعراض والمنافع والأبشار، وغير ذلك من الحدود والحقوق، إلى غير ذلك مما شرعه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم].
كل هذا داخل فيما خص الله به هذه الأمة من الشرائع، وذكر هنا ما سنه الله لهم في العادات مثل: (المطاعم) فبين كيف يطعم، وكيف يكسب المال من طرقه الحلال والوجوه المشروعة، ثم ينفقها في مصارفها الشرعية، ومثل: (الملابس) وما يشرع للإنسان عند لبس الثوب، (والولادة) كذلك وما يشرع في تسمية المولود، وحلق رأس الذكر، وإنفاق وزن شعره ذهباً، وتحنيكه، والعقيقة عنه، (والموت) كذلك، فبين ما يفعل في الميت من تغسيله ثم الصلاة عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، ونحو ذلك من السنن والآداب والأحكام التي هي حكم الله ورسوله فكل ذلك من خصائص هذه الأمة في السنن والآداب، (وفي الأحكام التي حكم الله ورسوله بينهم كالأحكام في الدماء) وأن القاتل يقتل قصاصاً، إلا إذا سمح أولياء القتيل في الدماء (وكذلك ما شرعه الله في الأموال) وهو أن يكسبها من الوجوه المشروعة، وينفقها في الوجوه المشروعة، (وكذلك ما شرعه الله في الأبضاع) فشرع للناس الزواج الشرعي، وحث على حفظ الأعراض، وأنه ينبغي للإنسان أن يذب عن عرض أخيه فضلاً عن ألا يتكلم فيه لا بالغيبة ولا بالنميمة، وقوله: (والمنافع) يريد ما ينتفع فيه العباد من المآكل والمشارب وغيرها.
وقوله: (والأبشار) يعني: ما يصيب بشرة الإنسان، وأن ليس لإنسان أن يعتدي على بشر، وله أن يقتص وغير ذلك من الحدود والحقوق، إلى غير ذلك مما شرعه الله لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، فجعلهم متبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم، وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة كما ضلت الأمم قبلهم، إذ كانت كل أمة إذا ضلت أرسل الله تعالى رسولاً إليهم كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦].
وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:٢٤]].
وذكر المصنف رحمه الله هنا: أن من خصائص هذه الأمة أن الله سبحانه وتعالى: حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، فجعلهم متبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من نعمة الله تعالى ومنته على عباده المؤمنين، كما حبب الإيمان إلى أتباع الأنبياء السابقين، كما قال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:٧ - ٨].
وعصم هذه الأمة، فمن خصائصها: أن الله تعالى عصمها من أن تجتمع على ضلالة كما ضلت الأمم من قبلها، ولهذا كان إجماع هذه الأمة حجة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة).
ولقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:١١٥].
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى).
وقد كانت كل أمة إذا ضلت أرسل الله تعالى إليهم رسولاً يأمرهم وينهاهم، ويخرجهم من الضلال، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦].
وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:٢٤].
وأما هذه الأمة فإن نبينا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء فليس بعده نبي، ولهذا عصم الله أمته من اجتماعهم على الضلالة، وكان إجماعهم حجة.