[وسطية أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات بين أهل التعطيل وأهل التمثيل]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق، فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات، فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل].
أهل السنة والجماعة وسط في باب أسماء الله تعالى وآياته وصفاته: بين أهل التعطيل وأهل التمثيل، والمعنى أن هذه الأمة كما أنها وسط بين أهل الملل فإن أهل السنة والجماعة وسط بين الفرق، حيث يقول الله سبحانه في وسطية الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} [البقرة:١٤٣].
وذلك أن النصارى غلوا في المسيح عيسى ابن مريم وجعلوه إلهاً وجعلوه ابن الله، واليهود جفوا في عيسى وقالوا: إنه ولد بغي وولد زنا والعياذ بالله، وأهل الحق -وهم هذه الأمة- وسط بين ذلك، فاعتقدوا أنه عبد الله ورسوله ليس إلهاً ولا ابناً كما تقول النصارى، وليس ولد بغي كما تقول اليهود، وإنما هو عبد الله ورسوله، خلقه الله من أنثى بلا أب لتتم القسمة الرباعية، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الناس بني آدم أربعة أقسام: قسم خلق بلا ذكر ولا أنثى، وهو آدم الذي خلقه الله من طين، وقسم خلق من ذكر بلا أنثى، وهي حواء التي خلقت من ضلع آدم، وقسم خلق من أنثى بلا ذكر، وهو عيسى، وقسم خلق من أنثى وذكر، وهم سائر الناس، فتمت القسمة الرباعية بخلق عيسى من أنثى بلا أب، ولله الحكمة البالغة.
فكما أن هذه الأمة في الملل وسط فأهل السنة والجماعة من هذه الأمة وسط؛ لأن هذه الأمة فرق متعددة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.
قيل: من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
فهذه الفرق كلها مبتدعة متوعدة بالنار إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنة والجماعة، وهم الطائفة المنصورة، وهم أهل الحق، وهم الفرقة الناجية.
فأهل السنة والجماعة وسط بين فرق المبتدعة، فهم في باب أسماء الله وصفاته وسط بين أهل التعطيل وأهل التمثيل، وأهل التعطيل هم الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فالجهمية نفوا الأسماء والصفات عن الله عز وجل، فقالوا: ليس بسميع، ولا بصير، ولا عليم، ولا قدير، ولا يوصف بالعلم، ولا بالقدرة، ولا بالسمع، ولا بالبصر، وسلبوا عن الله تعالى جميع الأسماء والصفات، وعلى هذا يكون عدماً، فالشيء الذي ليس له صفات ليس له وجود في الواقع، ولهذا كفرهم الأئمة وكثير من أهل الحديث وأهل السنة والجماعة، وقالوا: إن الجهمية كفار خارجون عن الثنتين والسبعين فرقة، وكفرهم خمسمائة عالم كما ذكر العلامة ابن القيم: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان والمعتزلة أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، فقالوا: عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، قدير بلا قدرة، فمن العلماء من كفرهم ومن العلماء من بدعهم.
والأشاعرة أثبتوا الأسماء وأثبتوا سبع صفات، وهي: الحياة والكلام والبصر والسمع والإرادة والعلم والقدرة.
فهؤلاء يسمون أهل التعطيل؛ لأنهم عطلوا الله من أسمائه وصفاته؛ وهذا هو الإلحاد في أسماء الله وآياته، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: وسموا بأهل التعطيل؛ لأنهم الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه من الأسماء والصفات ويقولون: ليس بسميع ولا بصير ولا عليم، ولا يوصف بالسمع ولا بالبصر، حتى شبهوه بالعدم، وقد سبق أن الجهمية ينكرون الأسماء والصفات، فيجعلونه عدماً لا وجود له كالموات الذي لا وجود له؛ لأن كل شيء موجود لابد من أن يوصف بصفات.
فهؤلاء يقولون: ليس له طول ولا عرض ولا عمق، ولا لون ولا ثقل ولا خفة، وليس في السماء ولا في الأرض، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا أمام ولا خلف.
هكذا قالت الجهمية والعياذ بالله، ولهذا فإن أهل التعطيل يعبدون عدماً.
فأهل السنة وسط بين أهل التعطيل وبين أهل التمثيل الذي يضربون لله الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات، فأهل التمثيل -وهم أهل التشبيه- وغلاتهم من الشيعة يثبتون الأسماء والصفات لله لكن يشبهونها بصفات المخلوقين، فيقول أحدهم: لله سمع كسمعي، وبصر كبصري، ويد كيدي، ورجل كرجلي، واستواء كاستوائي.
فشبهوا الله بالمخلوقات، وقالوا: لا نعلم معنى هذه الصفات إلا كما هي عند المخلوق، فالله مثل المخلوقات عندهم، وهم في الحقيقة ما عبدوا الله، وإنما عبدوا صنماً ووثناً تخيلوه، ولهذا قال العلامة ابن القيم: من شبه الله العظيم بخلقه فهو كذاك المشرك النصراني ومراده أن من شبه الله بخلقه فهو مشابه للنصارى حينما عبدوا عيسى وجعلوه إلهاً، فالمشبه شابه النصارى في عبادتهم لعيسى من دون الله، وقال ابن القيم: لسنا نشبه وصفه بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان فالمشبه ما عبد الله وإنما عبد وثناً صوره له خياله ونحته له فكره، فهو من عباد الأوثان لا من عباد الرحمن.
ولهذا قال السلف: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد يعبد إلهاً واحداً.
وغالب المشبهة من غلاة الشيعة، كالبيانية الذين ينسبون إلى بيان بن سمعان التميمي، والسالمية الذين ينسبون إلى أبي الحسن بن سالم.
ومن المشبهة هشام بن الحكم الرافضي، وقد قال بعضهم: إن الله على صفة الإنسان.
فأهل التشبيه غلوا في الإثبات، وأهل التعطيل غلوا في التنزيه، وأهل السنة والجماعة وسط بين أهل التعطيل وأهل التشبيه، فأهل التعطيل معهم حق ومعهم باطل، وأهل التشبيه معهم حق ومعهم باطل، فأهل السنة أخذوا الحق الذي مع أهل التعطيل وأخذوا الحق الذي مع أهل التمثيل، ونفوا الباطل الذي عند هؤلاء وهؤلاء، فالحق الذي مع أهل التعطيل هو التنزيه، أي: تنزيه الله عن مشابهة المخلوق، لكن عندهم باطل وهو الزيادة في نفي هذا التشبيه حتى وصلوا إلى التعطيل.
والحق الذي عند أهل التمثيل هو إثبات الصفات، لكن عندهم باطل وهو الغلو في هذا الإثبات حتى شبهوا الله بالمخلوقات.
فأخذ أهل السنة والجماعة الحق الذي مع المشبهة وهو الإثبات، وأخذوا الحق الذي مع المعطلة وهو التنزيه، فخرج الحق لبناً خالصاً سائغاً للشاربين من بين فرث التعطيل ودم التشبيه.
فأهل السنة وسط بين المشبهة الممثلة وبين المعطلة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله مبيناً مذهب أهل السنة: [فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فلا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يقولون: إن صفات الله معناها كذا أو إنه يشبه كذا، ولا يعطلون الصفات.