[الإيمان باليوم الآخر أصل لا يتم الإيمان إلا به]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومثل الإيمان باليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب كما أخبر عن إيمان من تقدم من مؤمني الأمم به حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:٦٢]].
وهذا هو الأصل الخامس من أصول الإيمان، نعني: الإيمان باليوم الآخر، وما يدخل فيه من الثواب في الجنة، والعقاب في النار، كما أخبر عن إيمان من تقدم من مؤمني الأمم به حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:٦٢]، والشاهد قوله: (واليوم الآخر)، {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:٦٢].
والإيمان باليوم الآخر يشمل الإيمان بالبعث، وهو أن الله تعالى يبعث الأجساد ويعيد الذرات؛ لأن الإنسان يبلى ولا يبقى منه إلا عجب الذنب المسمى بالعصص، وهي آخر فقرة في العمود الفقري، فلا يبلى ولا تأكله الأرض كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم، ومنه يرجع).
وعجب الذنب يبقى ويخلق منه ابن آدم، فيعيد الله الذرات التي تكون جسم الإنسان بعد أن صارت تراباً؛ لأن الله عليم بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء؛ ولأن الله قادر على كل شيء، فهو قادر على أن يعيد الذرات، ولهذا لما أخبر الله عن الكافرين قولهم على لسان أحدهم: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:٧٨] رد الله فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٩].
فلأنه عليم وقادر، فليس يمتنع عليه شيء سبحانه وتعالى، وعند إعادة الذرات تعاد الذوات إلى ذاتها، ولكن الصفات تتبدل، بمعنى: أن الله تعالى ينشئ الناس يوم القيامة تنشئة قوية، وإنما تبدل الصفات حتى يتحملوا ما لا يتحملونه في الدنيا، فصفة يديه تبدل فينشأ قوياً، ولكن الذرات هي هي، خلافاً للجهم بن صفوان قبحه الله الذي يقول: إن الذي يعاد شيء آخر غير جسم هذا الإنسان، فعنده أن جسم الإنسان يبلى ولا يعود، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنه يلزم من هذا أن يكون الله يعذب أحداً لم يعصه، فإذا كانت الذرات التي تعاد ليست الذرات التي نشأ منها في الدنيا فمعناه أن الله عذب أحداً بغير ذنب سبحانه عما يقولون، ولهذا أنكر العلماء على الجهم قوله ذاك، وهو الذي تنسب إليه الجهمية، وهي فرقة ضالة كافرة، تسلب عن الله جميع الأسماء والصفات، وهذا معناه: العدم، إذ أن الشيء الذي ليس له اسم ولا صفة لا وجود له، ولما قال الجهم هذه المقالة الخبيثة وهو القول بأن الإنسان يبلى ولا يعاد، وإنما يعاد شيء آخر، دخلت الملاحدة من هذا الباب الذي فتح لهم، فدخل ابن سيناء وقال: ليس هناك بعث للأجساد إطلاقاً، وإنما الذي تبعث هي الأرواح، فالمعاد معاد للأرواح لا للأبدان، وهذا كفر وضلال بإجماع المسلمين؛ لأن البعث إنما يكون بالأجساد، وقد أنكر الله على من أنكر البعث وحكم بكفره سبحانه وتعالى، وأقسم في كتابه في ثلاثة مواضع أن البعث لابد منه فقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:٧]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:٣]، وقال سبحانه: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:٥٣]، فالبعث يكون بالأبدان، ومن لم يؤمن بأن البعث للأبدان فهو كافر، وقول الفلاسفة والملاحدة أن الذي يبعث هو الروح كفر وضلال؛ لأن الروح باقية بعد خروجها من الجسد إما في نعيم أو عذاب.
وروح المؤمن تنقل إلى الجنة وروح الكافر تنقل إلى النار، ومعلوم أن أرواح الشهداء تتنعم بواسطة طير خضر؛ لأنهم لما بذلوا أجسادهم لله عوض الله أرواحهم أجساداً تتنعم بواسطتها، كما في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسبح في الجنة، وترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش).
وأما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تتنعم وحدها، وهي على هيئة طائر، كما في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) أي: يأكل.
كما يشمل الإيمان باليوم الآخر بجانب الإيمان بالبعث: الإيمان بالوقوف بين يدي الله تعالى للحساب، والإيمان بظهور خفايا الصحف، والإيمان بالميزان الذي توزن فيه أعمال العباد، ويوزن فيه الأشخاص، والإيمان بالحوض، وحوض نبينا صلى الله عليه وسلم في موقف القيامة حوض عظيم طوله مسافة شهر، وعرضه مسافة شهر، وأوانيه عدد نجوم السماء، وهو أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحاً من المسك، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً حتى يدخل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الواردين حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ويشمل الإيمان بالصراط أيضاً، وهو صراط ينصب على متن جهنم، أحد من السيف، وأحر من الجمر، كما أن النار تبرز يوم القيامة: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:٣٦].
وتفجر البحار وتكون جزءاً منها، ثم يمد الصراط على متن جهنم فيصعد الناس منه إلى الجنة، وعلى متن الصراط يعاقب الناس على حسب الأعمال، وأول زمرة يمرون كالبرق، ثم كالريح، ثم كالطير، ثم كأجاويد الخيل، ثم رجل يعدو عدواً، ثم رجل يزحف زحفاً، وعلى الصراط كلاليب تخطف من أمرت بخطفه وتلقيه في النار نعوذ بالله.
ثم الإيمان بالجنة والنار، فهذا مفصل الإيمان باليوم الآخر من الإيمان بالبعث، بعد الموت إلى الإيمان بالوقوف بين يدي الله للحساب، إلى الإيمان بإعطاء الكتب بالأيمان وبالشمائل، إلى الإيمان بالحوض، إلى الإيمان بالميزان، إلى الإيمان بالجنة والنار، ويلتحق بذلك الإيمان بما يكون في البرزخ، وهو الأصل؛ لأنه برزخ بين الدنيا والآخرة؛ إذ أن الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار.
فدار الدنيا: هي التي نحن فيها وتمتد إلى البرزخ، ودار البرزخ: تمتد من الموت إلى البعث، وسمي بالبرزخ؛ لأنه فاصل بين الدنيا والآخرة.
ودار القرار: هي البعث وتمتد إلى ما لا نهاية، ولذا لابد من الإيمان بهذه الأمور كلها، كما أخبر عن إيمان من تقدم من مؤمني الأمم حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:٦٢]، والشاهد: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:٦٢]، فقد أخبر أن من آمن من المؤمنين، أو من اليهود، أو من النصارى، أو من الصابئين، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.