قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وقد تقدم أن دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر: إما إفراط فيه وإما تفريط فيه، وإذا كان الإسلام الذي هو دين الله لا يقبل من أحد سواه قد اعترض الشيطان كثيراً ممن ينتسب إليه حتى أخرجه عن كثير من شرائعه، بل أخرج طوائف من أعبد هذه الأمة وأورعها عنه حتى مرقوا منه كما يمرق السهم من الرمية، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين منه، فثبت عنه في الصحاح وغيرها من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وسهل بن حنيف وأبي ذر الغفاري وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم وغير هؤلاء، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج فقال:(يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم أو فقاتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وفي رواية:(شر قتلة تحت أديم السماء، خير قتيل من قتلوه)، وفي رواية:(لو يعلم الذين يقاتلونهم ما لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل)].
هذا البحث بين فيه المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن دين الإسلام وسط بين الإفراط والتفريط، ولهذا قال رحمه الله: وقد تقدم أن دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والغالي هو الذي زاد عن الحد، وهو المُفْرِط.
والجافي: هو المقصر الذي يقصر ولا يؤدي الواجبات.
فالنصارى مثلاً غلاة، فقد غلو في عيسى فقالوا: إنه ابن الله، أو ثالث ثلاثة، واليهود قصروا وجفوا وقالوا: إنه ولد بغي، أي: ولد زنا، وأما أهل الإسلام فهم وسط بين الغالي والجافي، فقالوا: إنه عبد الله ورسوله، فليس إلهاً ولا ابن إله؛ فإن الله ليس له ولد -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وليس هو ولد بغي كما يقول اليهود، وإنما هو عبد الله ورسوله.
فتبين بهذا أن دين الإسلام وسط بين الغالي والجافي، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر: إما إفراط فيه وإما تفريط فيه، فالشيطان يحرص أن يوقع الإنسان إما في الإفراط أو في التفريط، وذلك مثل قصة الرهط الذين أرادوا أن يزيدوا على عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوا عن عبادته في السر، فقيل لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وينام، ويصوم ويفطر، ويتزوج النساء.
فقال هؤلاء الرهط: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما نحن فلا ندري هل غفر لنا أو لا، فلابد أن نزيد، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أنام على فراشي، وقال الآخر: وأما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، أي: زهداً حتى لا ينشغل عن العبادة، وقال آخر: وأما أنا فلا آكل اللحم.
فهذا من الغلو، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهم أنكر عليهم، وخطب الناس وقال:(ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
وشخص آخر يتساهل ويفرط، فلا يؤدي الواجبات ولا يترك المحرمات، فهذا مفرِّط، والأول مُفْرِط، والشيطان لا يبالي بأيهما ظفر، وجاء في بعض الآثار: أن الشيطان يشم القلوب، فإن وجد في القلب رغبة في العبادة وقوة أوقعه في الإفراط والزيادة، وإن رأى فيه تساهلاً أوقعه في التفريط والتقصير.