[عدم ثبوت ما روي أن النبي رأى ربه عندما نزل من حراء]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك ما روى بعضهم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل من حراء تبدى له ربه على كرسي بين السماء والأرض)].
وهذا من الأحاديث المكذوبة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [غلط باتفاق أهل العلم، بل الذي في الصحاح: (أن الذي تبدى له الملك الذي جاءه بحراء في أول مرة، وقال له: اقرأ فقلت: لست بقارئ)].
أي: لم يأت في الأحاديث أن الله تبدى لنبيه، ولكن الحديث الصحيح: (أن الذي رآه في غار حراء هو جبريل، فقد رآه على صورته التي خلقه الله عليها جالساً على كرسي بين السماء والأرض وله ستمائة جناح، وكل جناح يملأ ما بين السماء والأرض، فقال له: اقرأ، فقال: لست بقارئ) أي: لا أعرف القراءة والكتابة، وهذا ليس تحدياً ولا امتناعاً، (فأخذه وضمه حتى بلغ منه الجهد) أي: حتى يتحمل القيام بأعباء الرسالة، فقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، وهذا ليس امتناعاً منه، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يتعلم القراءة والكتابة، فضمه الثالثة حتى بلغ منه الجهد، فعل ذلك ثلاث مرات لكي يتهيأ للقيام بأعباء الرسالة، وهو أيضاً عليه الصلاة والسلام قد رعى الغنم، وكل نبي رعى الغنم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟! قال: نعم، وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)، قال العلماء: الحكمة هنا حتى يتمرن وينتقل من سياسة الغنم ورعايتها إلى سياسة الأمم والدول والشعوب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:١ - ٥]، فهذا أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم].
أول ما نزل عليه من الوحي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:١]، والشاهد أن الذي تبدى للنبي صلى الله عليه وسلم ورآه في غار حراء هو الملك وليس الله؛ لأن الله لا يستطيع أحد أن يراه في الدنيا لا النبي ولا غيره.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم جعل النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي قال: (فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض)].
وهذا بعد ما فتر الوحي، فقد أوحي إليه عليه الصلاة والسلام ثم فتر الوحي ثلاث سنين، ثم رجع إليه مرة أخرى، فرأى الملك فقال: (هذا الذي رأيته في غار حراء) أي: في أول البعثة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [رواه جابر رضي الله عنه في الصحيحين، فأخبر أن الملك الذي جاءه بحراء رآه بين السماء والأرض].
فالنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ الأربعين حبب إليه الخلاء والانفراد عن الناس، وكان يأخذ من الطعام والشراب ما يكفيه، ثم يخرج من بيته ويذهب إلى غار حراء، وهو غار في الجبل، فيتعبد اليومين والثلاثة، فإذا انتهى الزاد رجع إلى زوجته خديجة وأخذ الطعام وعاد إلى الغار يتعبد، فجاءه جبريل في هذا المكان بالوحي والرسالة، ثم فتر الوحي ثلاث سنوات ثم رجع إليه مرة أخرى فرأى جبريل فقال: (هذا الذي رأيته في غار حراء).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وذكر أنه رعب منه، فوقعفي بعض الروايات: الملك].
أي: أخبر أنه الملك الذي جاءه بحراء، وأنه ما بين السماء والأرض، وقال: إنه رعب منه، أي: خاف منه؛ لأنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها وله ستمائة جناح، فخاف من صورته العظيمة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فوقع في بعض الروايات: الملك، فظن القارئ أنه الملك، وأنه الله، وهذا غلط وباطل].
أي: جاء في بعض الروايات أنه قال: الملك، فظن الراوي أنه الملك، أي: بالكسر، وهو الله تعالى، وهذا غلط وتحريف وهو من الأوهام في الشريعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وبالجملة: فكل حديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينيه في الأرض، وفيه: أنه نزل له إلى الأرض، وفيه: أن رياض الجنة من خطوات الحق، وفيه أنه وطئ على صخرة بيت المقدس، كل هذا كذب باطل باتفاق علماء المسلمين من أهل الحديث وغيرهم].
هذه قاعدة ذكرها بها المؤلف هنا فقال: كل حديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الأرض فهو باطل مكذوب، فلا يمكن لأحد أن يرى الله في الأرض.
أو فيه: (أن الله نزل له إلى الأرض) فهو كذب، أو فيه: (أن رياض الجنة من خطوات الحق) فهو كذب، أو فيه: (أنه وطئ على صخرة ببيت المقدس)، فكل هذا كذب وغلط.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك كل من ادعى أنه رأى ربه بعينيه قبل الموت فدعواه باطلة باتفاق أهل السنة والجماعة؛ لأنهم اتفقوا جميعهم على أن أحداً من المؤمنين لا يرى ربه بعيني رأسه حتى يموت، وثبت ذلك في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر الدجال قال: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)].
أي: أن كل من ادعى أنه رأى ربه بعينه قبل الموت فهو كاذب ودعواه باطلة؛ لأن العلماء اتفقوا على أنه لا يراه أحد من المؤمنين بعيني رأسه حتى يموت، وثبت في حديث مسلم: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر يحذر أمته فتنة الدجال، وبين لهم أن أحداً منهم لن يرى ربه حتى يموت].