(٢) اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالتواتر، وفيه إشكال؛ وذلك لأنا نقول: هذه القراءة إما أن تكون منقولة بالتواتر، أو لا. فإن كان الأول، فحينئذ قد ثبت بالنقل المتواتر أن الله- تعالى- قد خير المكلفين بين هذه القراءات، وسوّى بينها فى الجواز. وإذا كان كذلك، كان ترجيح بعضها على البعض واقعا على خلاف الحكم المتواتر؛ فواجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض، مستوجبين للتفسيق إن لم يلزمهم التكفير، لكنا نرى أن كل واحد يختص بنوع معين من القراءة، ويحمل الناس عليها، ويمنعهم من غيرها، فوجب أن يلزم فى حقهم ما ذكرناه. وإن قلنا: هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر؛ بل بطريق الآحاد، فحينئذ يخرج القرآن عن كونه مفيدا للجزم، والقطع اليقين؛ وذلك باطل بالإجماع، ولقائل أن يجيب عنه، فيقول: بعضها متواتر، ولا خلاف بين الأمة فيه، وتجويز القراءة بكل واحد منها، وبعضها من باب الآحاد، لا يقتضى كون القراءة بكليته خارجا عن كونه قطعيّا، والله أعلم، ذكره ابن الخطيب. وذكر ابن عادل الحنبلى فى اللباب: أن من المتفق عليه عند العلماء وأرباب النظر: أن القرآن الكريم لا تجوز الرواية فيه بالمعنى، بل أجمعوا على وجوب روايته لفظة لفظة، وعلى أسلوبه وترتيبه، ولهذا كان تواتره اللفظى لا يشك فيه أدنى عاقل، أو صاحب حس. ثم إن التواتر عند جمهور العلماء يفيد العلم ضرورة، بينما خالف فى إفادته العلم مطلقا السّمنية والبراهمة. وخالف فى إفادته العلم الضرورى الكعبى وأبو الحسين من المعتزلة، وإمام الحرمين من الشافعية، وقالوا: إنه يفيد العلم نظرا. وذهب المرتضى من الرافضة، والآمدى من الشافعية إلى التوقف فى إفادته العلم، هل هو نظرى أو ضرورى؟ وقال الغزالى: إنه من قبيل القضايا التى قياساتها معها، فليس أوليّا، وليس كسبيّا. واحتج الجمهور أنه ثابت بالضرورة، وإنكاره مكابرة وتشكيك فى أمر ضرورى؛ فإنا نجد من أنفسنا العلم الضرورى بالبلدان البعيدة، والأمم السالفة، كما نجد العلم بالمحسوسات لا فرق بينها فيما يعود إلى الجزم، وما ذاك إلا بالإخبار قطعا ولو كان نظريّا لافتقر إلى توسط المقدمتين فى لإثباته واللازم باطل؛ لأننا نعلم قطعا علمنا بالمتواترات من غير أن نفتقر إلى المقدمات وترتيبها. كما أنه لو كان نظريّا، لساغ الخلاف فيه ككل النظريات، واللازم باطل. فثبت مما تقدم أن المتواتر يفيد العلم، وأن العلم به ضرورى كسائر الضروريات. ينظر: البحر المحيط للزركشى: (٤/ ٢٣١)، والبرهان لإمام الحرمين: (١/ ٥٦٦)، والإحكام فى أصول الأحكام للآمدى: (٢/ ١٤)، ونهاية السول للإسنوى: (٣/ ٥٤)، ومنهاج العقول للبدخشى: (٢/ ٢٩٦)، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصارى: (٩٥)، والتحصيل من المحصول للأرموى: (٢/ ٩٥). (٣) فى ص: يستقل.