فقمت إلى الدهليز وجلست على الدكة ساعة، وإذا بجارية خرجت إلي، وقالت: يا سيدي! تقول لك سيدتي ادخل واجلس على جانب الإيوان حتى تقبض مالك.
فقمت فدخلت وجلست حيث أمرتني، وإذا بكرسي من الذهب وعليه ستارة من الحرير الأحمر، وإذا بتلك الستارة قد رفعت فبان من تحتها تلك الجارية التي اشترت مني العقد، وقد أسفرت عن وجه كأنه دائرة القمر، والعقد في عنقها فدهش عقلي وحار ذهني ولبي من رؤية تلك الجارية وحسنها، فلما رأتني قامت من على الكرسي، وسعت نحوي، وقالت: يا نور الدين! هل رأيت جميلة مثلي؟ فقلت: يا سيدتي الحسن كله فيك، وهو من بعض معانيك.
فقالت: يا علي، اعلم أني أحبك وما صدقت أنك صرت عندي.
ثم إنها طوقتني وعانقتني، فقبلتها وقبلتني ثم جذبتني وعلى صدرها رمتني. فلما علمت مني أني أريد أن أهم بها قالت: يا علي، أتريد أنن تجتمع بي في الحرام، والله لا كان من يفعل الآثام ويرضى بقبيح الكلام، فإني بكر عذراء ما دنا مني أحد، ولست مجهولةً في البلد، أتعلم من أنا؟ فقلت: لا والله، وحلفت لها يميناً.
فقالت: أنا الست دنيا بنت يحيى بن خالد البرمكي، وأخي جعفر.
فلما سمعت منها ذلك جمعت خاطري عنها، وقلت: يا سيدتي ما لي ذنب في التهجم عليك، أنت التي أطمعتني في إحسانك والوصول إلى جنابك.
فقالت: لا بأس عليك ولا بد من الإحسان إليك فإن أمري بيدي، والقاضي ولي عقدي، والقصد أن أكون لك وتكون لي.
ثم إنها دعت بالقاضي والشهود وبذلت المجهود، فلما حضروا قالت لهم: هذا نور الدين علي بن الجوهري قد طلب زواجي ودفع لي هذا العقد مهري، وأنا قد قبلت ورضيت.
ثم إن القاضي حمد الله تعالى وأثنى عليه وكتب الكتاب فدخلت عليها بعد أن أعطت للقاضي شيئاً ما له حساب، وأحضرت المدام وأحضرت الأقداح بأحسن نظام، فلما لعبت الخمرة في رؤوسنا أمرت جارية عوديةً أن تغني فأنشأت تقول:
قلبي وآمالي بباب رجاكمو ... لا أبتغي في الكون غير رضاكمو
يا جيرة جاروا علي ببعدهم ... حنوا علينا وارحموا مضناكمو