وقامع المفسدين وإمام المتقين هناك الله بما أعطاك وجعل الجنة مأواك والنار مثوى لأعداك وأنشد يقول:
لا زال بابك كعبة مقصودةً ... وترابها فوق الجباه رسوم
حتى ينادي في البلاد بأسرها ... هذا المقام وأنت إبراهيم
فعند ذلك تبسم الخليفة في وجهه، ورد عليه السلام وأظهر له الإحسان والإكرام وقربه إليه، وأجلسه بين يديه وقال له: يا نور الدين أريد أن تحدثني بحديثك الليلة يا مسكين، فإنه من أعجب الأمور.
فقال الشاب: العفو يا أمير المؤمنين، أعطني منديل الأمان ليهدأ روعي ويطمئن قلبي.
فقال الخليفة: لك الأمان.
فشرع الشاب يتحدث بالذي جرى له من أوله إلى آخره، فعلم الخليفة من غير إطالة أن الصبي عاشق لا محالة، فقال الخليفة: أتحب أن أردها إليك يا مسكين؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين ثم أنشد يقول:
إن رمت إحساناً فهذا وقته ... أو رمت معروفاً فهذا حينه
فعند ذلك التفت الرشيد إلى الوزير وقال له: أحضر أختك الست دنيا بنت الوزير يحيى.
فقال له: السمع والطاعة.
فأحضرها في الوقت فلما مثلت بين يديه قال لها: أتعرفين هذا من؟ فقالت: أين للنساء معرفة بالرجال؟
فتبسم وقال: يا دنيا قد عرفنا الحال وسمعنا الحكاية من أولها إلى آخرها وفهمنا باطنها وظاهرها، والأمر لا يخفى وإن كان مستوراً.
فقالت: كان ذلك في الكتاب مسطوراً، وأن أستغفر الله مما جرى مني، وأسأل من فيض الفضل العفو عني.
فضحك الخليفة وأحضر القاضي والشهود وعقد له ثانياً عليها. وحصل له سعد السعود، وأكمد العدو والحسود وجعله نديمه وزاد تكريمه، وعاش بقية عمره في أهنإ عيش ونعمةٍ، يجالس الخليفة في الليل والنهار، تؤانسه الست دنيا ذات الفخار.