فلما سمع الرجل الحديث قال: قد أمكنك الله من الوفاء له ومكافأته على فعله ومجازاته على صنعه بلا كلفة عليك ولا مؤنة تلزمك.
فقلت: وكيف ذلك؟ قال: أنا ذلك الرجل، وإنما الضر الذي أنا فيه قد غير عليك حالي وما كنت تعرفه مني، ثم لم يزل يذكر لي تفاصيل الأسباب حتى أثبت معرفته، فما تمالكت أن قمت وقبلت رأسه، ثم قلت له: فما الذي صيرك إلى ما أرى؟ قال: هاجت بدمشق فتنة مثل الفتنة التي كانت في أيامك فنسبت إلي، وبعث أمير المؤمنين بجيوش فضبطوا البلد فأخذت أنا وضربت إلى أن أشرفت على الموت، وقيدت وبعث بي إلى أمير المؤمنين وأمري عنده عظيم، وهو قاتلي لا محالة، وقد أخرجت من عند أهلي بلا وصية، وقد تبعني من ينصرف إليهم بخبري، وهو نازل عند فلان، فإن رأيت أن تجعل من مكافأتك لي أن ترسل من يحضره لي حتى أوصيه بما أريد، فإن أنت فعلت ذلك فقد جاوزت حد المكافأة وقمت بوفاء عهدك.
قال العباس: فقلت يصنع الله خيراً.
ثم أحضر حداداً في الليل وفك قيوده، وزال ما كان عليه من الإنكال، وأدخله حمام داره، وألبسه من الثياب ما احتاج إليه، ثم سير من أحضر إليه غلامه، فلما رآه جعل يبكي ويوصيه، فاستدعى العباس نائبه وقال: علي بفرسي الفلاني والبغل الفلاني والبغلة الفلانية حتى عد عشرة، ثم عشرة من الصناديق، ومن الكسوة كذا وكذا.
قال ذلك الرجل: وأحضر لي بدرة فيها عشرة آلاف درهم وكيساً فيه خمسة آلاف دينار، وقال لعامله في الشرطة: خذ هذا الرجل وشيعه إلى حد الأنبار.
فقال له: إن ذنبي عظيم عند أمير المؤمنين وخطبي جسيم، وإن أنت احتجيت بأني هربت بعث أمير المؤمنين في طلبي كل من على بابه فأرادوا قتلي.
فقال: انج بنفسك ودعني أدبر أمري.
فقال: والله لا أبرح من بغداد حتى أعلم ما يكون من خبرك، فإن احتجت إلى حضوري حضرت.
فقال لصاحب الشرطة: إن كان الأمر على ما يكون، فليكن في موضع كذا وكذا، فإن أنا سلمت في غداة غدٍ أعلمته، وإن أنا قتلت وقيته بنفسي كما وقاني بنفسه، وأنشدك الله أن لا يذهب من ماله درهم، وتجتهد في إخراجه من بغداد.