تربصت ساعة. ونمت نوماً لأتقوى بذلك على انتصاب سائر النهار.
فقال الفتى: فعجل الآن أيها الأمير، فإنه أمرني أن لا أفارقك حتى آتيه بك.
فأمر المعتصم بإسراج مركوبه وأسرع في التأهب، ولبس ثيابه وتطيب وركب الفتى معه، والمعتصم لا ينكر شيئاً من كلام الفتى ويتأمل لطافته وهيئته، ولم يتوهم إلا نه من بعض خواص المأمون، وأخذ الفتى يحدث المعتصم وأقبل عليه بكليته، ولم يتمكن من سؤاله شهوة لاستماع حديثه، حتى بلغ باب الخليفة فألقى الفتى نفسه عن دابته، وأخذ يمشي بين يديه، والحجاب لا ينكرون منه شيئاً ويظنون نه من خدم المعتصم، حتى نزل المعتصم، وأخذ الفتى بركابه، ودخل المجلس، فلما استقر المعتصم في مجلسه جلس الفتى بين يديه، وهو منهمك في نوادره وأخباره والمعتصم مصغ إليه تعجباً مما يسمع من حسن كلامه، وأخبر المأمون أن المعتصم قد وصل ومعه رقيق لا يعرف من هو.
فقال المأمون: أخي قد عرف أن هذا المجلس اتفقنا عليه لا ينبغي أن يحضره أحد من الناس إلا من هو عديل النفس. وقد أحسن أخي إذ جعل لنا ثالثاً، فإن المجلس إذا لم يحضره أكثر من اثنين تعطل لقيام أحدهما إلى الصلاة وإلى ما لا بد منه، ثم خرج من ساعته فرحاً وليس له همة إلا تصفح وجه الغلام واستنطاقه واعتبار قده وعقله، فلما استقر على سرير ملكه والفتى عالم بما وقع في نفس المأمون نهض قائماً فقبل يد المأمون، وعاد إلى مجلسه وأخذ في نوادره وحديثه ومضحكاته وحسن أخباره وغرائب أشعاره كأنه يغرف من بحر، وهو مع ذلك يوهم المأمون أنه من خواص المعتصم. فساعة يكنيه وساعة يسميه حتى غلب على قلب المأمون، وأظهر الحسد لأخيه في صحبة مثل هذا الغلام وكلامه، وأمر المأمون بإحضار المائدة، فنصبت بأنواع الطعام، فأكلوا وغسلوا أيديهم، ولمجلس الشراب انتقلوا، وأمر المأمون بإحضار الجواري من غير ستارة، فحضرن وأخذن في الغناء، فما من صوت يمر إلا والفتى عارف به، وبالغناء، ومتى قيل وفيمن قيل، فعز في عين المأمون حتى ملأ عينه، وتزايد حسده لأخيه في صحبة مثله فمس الفتى بولٌ، ولم يجد للمدافعة سبيلاً، فقام وهو متيقن أنهما سيذكرانه، ويتواصفان أمره وحاله، إذا خلا المجلس، فما هو إلا أن غاب من بين أيديهما حتى قال المأمون لأخيه المعتصم يا أبا إسحاق من صاحبك هذا؟ فوالله ما رأيت رجلاً قط أكثر منه أدباً ولا أنظف هيئة ولا اشرف من شمائله.
فقال المعتصم: والله ما أعلم من هو، وإنما جاءني مبكراً برسالة أمير المؤمنين.