فقال المأمون: سألتك بالله يا أخي أهو كذلك؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو.
فقال المأمون: طفيلي، ورب الكعبة، وغضب وأمر الجواري بالنهوض، فنهض وأقبل الفتى راجعاً فلما نظر إلى خلو المجلس من الجواري وإلى تغير وجه المأمون، وقف على رأس المجلس وأقبل بوجهه على المعتصم وقال: يا أبا إسحاق! كأني بك قد أخذت في نوع الزور والبهتان، وهذا المجلس من المجالس التي لا تحمل المزاح، وما هكذا وعدتني. ثم قل: والله يا أمير المؤمنين، ما بليت من أحد من الناس مثل ما بليت من هذا لأنه دائماً أبداً يعرضني لمثل هذا وأشباهه، ويغري بي ويوقعني في كل ورطة.
ثم أقبل على المعتصم وقال: يا أبا إسحاق، سألتك بالله وبحق أمير المؤمنين إلا ما أعفيتني من ملاعبتك التي لا تحتمل وتؤدي إلى مؤاخذة أمير المؤمنين.
ولم يزل يأتي بهذا وأمثاله حتى شك المأمون في أمره والتفت إلى أخيه المعتصم وقال: سألتك بالله يا أخي، بحياتي عليك إلا ما علمتني بحقيقة أمره؟ فقال المعتصم: يا أمير المؤمنين برئت من ذمة الله ورسوله ومن حياتك وولايتك إن كنت عرفه أو رأيته قط إلا في يومي هذا.
فقال الفتى: كذب والله يا أمير المؤمنين لقد كنت معه دهري الطويل وفي موضع كذا وكذا، وإن هذا فعله معي أبداً.
فضحك المأمون تعجباً، وقال: ادخل فدخل، وأمره بالجلوس فجلس، ثم قال لك الأمان إن صدقتني.
فصدقه الحديث على وجهه فأعجب من حسن منطقه ولطف مدخله ودقيق تصرفه وأمر بإعادة الجواري إلى مجلسهن، فطربوا سائر يومهم. فقال له المأمون: أخبرني بأعجب ما لحقك في قدومك من الكوفة إلى بغداد واجعله نظماً ولا تكتم عني شيئاً.
فقال: نعم، ثم أنشأ يقول:
بينا أنا راقد في البيت مكتئب ... مفكر في حصول الكد والقوت
وليس في البيت لي شيء ألم به ... وبي من الجوع ما يدني إلى الموت
إذا بصوت بباب الدار أسمعه ... والأذن مصغية مني إلى الصوت
ناديت من ذا الذي أرجوه لي فرجاً؟ ... نادى: أنا فرجٌ زن لي كرا البيت