أن تخرب عليه بغداد مع كثرة ما فيها من الغوغاء فيتعب أمير المؤمنين في إصلاحها، وقد أنهى ذلك المملوك إلى أمير المؤمنين، أيده الله، وهو أعلى رأياً والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
قال: فلما قرأ المتوكل الكتاب رفع رأسه إلى نرجس الخادم وقال له: امض الساعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر وادخل عليه داره بغتة من غير إذن وانظر إلى ما يصنع؟ ثم خذ منه جاريته فلانة وائت بها من غير تأخير.
فمضى نرجس من ساعته، وكان محمد قد اصطبح معها في ذلك اليوم، فدخل عليهما نرجس من غير استئذان، فلم يشعر محمد إلا وهو واقف عليه، فتغير وجهه وانتقع لونه، وفاضت عيناه وارتعدت فرائصه لعلمه أن نرجساً ما دخل عليه من غير إذن إلا وقد أضمر له السوء، فقال له: يا نرجس ما الذي أقدمك؟؟! قال: أمير المؤمنين أمرني أن آخذ جاريتك هذه.
قال: يا نرجس هذا يوم قد حضر شره وغاب خيره، وقد ترى ما نحن فيه، وأنا لا أخالف ما أمر به أمير المؤمنين.
ثم أمر للخادم بكرسي فجلس عليه بعد أن امتنع ساعة وقال: إن مثلي لا يجلس مع مثلك، ثم إن محمداً نظر إلى الجارية وبكى بكاء شديداً، وقال لها: غني لأتزود منك.
فأخذت العود وغنت بصوت حزين تقول:
لله من لمعذبين رماهما ... بشماتة العذال والحساد
أما الرحيل فحين جد تحملت ... مهج النفوس به من الأجساد
من لم يبت والبين يصدع شمله ... لم يدر كيف تفتت الأكباد
ثم إنهما أعلنا بالبكاء والنحيب والشهيق، فرحمهما الخادم ورق لهما حين عاين ما حل بهما. فقال: أيها الأمير، إن رأيت أن أمضي وأدعكما على ما أنتما عليه وأتعلل عنكما لأمير المؤمنين فعلت.
فقال: يا نرجس، من خلفه مثل أبي سويد كيف يمكنه التعلل، ولكن ارفق بنا.
فقالت الجارية: والله يا سيدي لا ملكني غيرك أبداً، ولئن دفعتني إليه لأقتلن نفسي.
فقال لها محمد: لو كان غير أمير المؤمنين لكان في ذلك أوسع حيلة، ولقد وددت أن يأخذ مني أمير المؤمنين جميع ما أملك ويعزلني عن عملي ويبقيك علي، ولكن هذا قضاء