الله وقدره. ثم التفت إلى نرجس وقال: لقد شاهدت مني ومن هذه الجارية ما شهد قلبك علينا بالمحبة والمودة والألفة، وليس يخفى عن علمك أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء. ومثلك من يصنع المعروف مع مثلي فخذها وامض بها إلى أمير المؤمنين، وقل ما شئت مما يليق بمروءتك. ثم التفت إليها وقبلها وبكى وبكت وبكى نرجس. ثم أخذها وخرج وهي تبكي وتخمش خدها ووجهها. قالت: ثم حملني نرجس على بغلة أمير المؤمنين وسار حتى دخل على المتوكل. فلما رآه قال: ما وراءك يا نرجس.؟ قال: ورائي يا أمير المؤمنين كل بلية. ثم إنه جلس بين يديه وقص عليه حالهما ولم يخف شيئاً.
فقال المتوكل: وكل هذا الوجد يجده محمد من هذه الجارية؟ فقال: يا أمير المؤمنين والذي خفي أكثر مما ظهر وما أظنه يعيش بعدها. فرق عليه قلب المتوكل وقال: يا نرجس ارجع بها إليه الساعة من وقتك، هذا وأدركه قبل أن تزهق روحه، وقد أمرت له بمائة ألف درهم، ولها مع ذلك مثله، وجعلت أمر بي سويد إليه يصنع به ما يشاء.
ثم كتب له توقيعاً بذلك ودفعه إلى نرجس، فرجع الخادم بالجارية والتوقيع ولم يتمهل حتى دخل عليه فوجده عرياناً يتقلب على حصر سامان من شدة الكرب والوجد، وقد أحدقت به الجواري يروحنه بالمراوح. فقال: أبشر يا محمد، إن أمير المؤمنين قد رد جاريتك عليك من غير أن يوقع نظره عليها، وقد حكمك في أبي سويد.
ثم ناوله التوقيع بذلك ودخلت الجارية عليه، فوثب إليها وعانقها وقبلها ساعة. ثم خرج فجلس على باب داره وبعث إلى أبي سويد، فلما حضر دفع إليه التوقيع، فلما قرأه قال: أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، وأن تهدم مني ركناً أنت شيدته، وأن تضيع صنيعة اصطنعتها إلى مثلي، فمثلي من هفا ومثلك من عفا.
ثم قام وقبل البساط فقال له محمد: لا أبدل نعمة الله كفراً ثم أمر به بخمسين ألف درهم فقالت الجارية: وأنا أيضاً أهب له خمسين ألف درهم مما وهبه لي أمير المؤمنين، شكراً لله تعالى على ذلك.
ثم أقره على ما كان عليه، وأمر أن يحمل المال بين يديه إلى منزله، ورجع محمد والجارية إلى ما كانا عليه في أطيب عيش وأحسن حال متظاهراً بذلك غير مستتر ولا خائف، انتهى.