للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كتب ربك عليهم أنهم لا يؤمنون لا يُسْمِعُهم دعاؤك إلى الحق إسماعاً ينتفعون به؛ لأن الله تعالى ذكره قد ختم عليهم أنْ لا يؤمنوا، كما ختم على أهل القبور من أهل الكفر أنهم لا ينفعهم بعد خروجهم من دار الدنيا إلى مساكنهم من القبور إيمان ولا عمل؛ لأن الآخرة ليست بدار امتحان، وإنما هي دار مجازاة، وكذلك تأويل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر: ٢٢] ". اهـ (١)

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قوله: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه؛ فإنَّ هذا مثل ضُرب للكفار، والكفار تسمع الصوت، لكن لا تسمع سماع قبولٍ بفقهٍ واتباع، كما قال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٧١)) [البقرة: ١٧١]، فهكذا الموتى الذين ضُرب لهم المثل لا يجب أنْ يُنفى عنهم جميع السماع المعتاد، أنواعَ السماع، كما لم يُنْفَ ذلك عن الكفار; بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماعٌ آخر فلا يُنفى عنهم". اهـ (٢)

وهذا القول: دلت عليه آيات من كتاب الله، جاء فيها التصريح بالبكم والصَّمَم والعمى مُسنداً إلى قوم يتكلمون ويسمعون ويبصرون، والمراد بصممهم: صممهم عن سماع ما ينفعهم دون غيره، فهم يسمعون غيره، وكذلك في البصر والكلام، وذلك كقوله تعالى في المنافقين: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)) [البقرة: ١٨] فقد قال فيهم: (صم بكم) مع شدة فصاحتهم، وحلاوة ألسنتهم، كما صرح به في قوله تعالى فيهم: (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) [المنافقون: ٤] أي لفصاحتهم، وقوله تعالى: (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ) [الأحزاب: ١٩]، فهؤلاء الذين إنْ يقولوا تسمع لقولهم، وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسِنةٍ حِداد، هم الذين قال الله فيهم: صم بكم عمي، وما ذلك إلا أنَّ صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شيء خاص، وهو ما يُنتفع به من الحق، فهذا وحده هو الذي صَمُّوا عنه فلم


(١) تهذيب الآثار، للطبري (٢/ ٥٢٠).
(٢) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (٤/ ٢٩٨).

<<  <   >  >>