للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويَرِدُ على مذهب ابن عبد البر: أَنَّ الحديث رواه عدد من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتفرد به عمرو بن أبي عمرو، الذي يرويه عن أنس، وأحاديثهم مروية في الصحيحين (١)، فلا وجه لتضعيف حديث أنس، وإنْ كان من رواية عمرو بن أبي عمرو.

[المبحث الخامس: الترجيح]

الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - أَنَّ إبراهيم عليه السلام دعا ربه وسأل تحريم مكة؛ فأجاب الله تعالى دعاءه، وحرَّمها على لسان إبراهيم، وكان الله قد حرَّمها قبل ذلك، يوم أنْ خلق السماوات والأرض؛ إلا أنه لم يُظْهِر تحريمها للناس إلا حينما دعاه إبراهيم، ومعلوم أَنَّ تبليغ التحريم لعموم الناس لا يكون إلا بوحي من الله تعالى لنبي من أنبيائه، وإنما نُسب التحريم إلى الله في الآية؛ لأنه هو المُحَرِّمُ في الحقيقة، ونُسِبَ في الحديث لإبراهيم؛ لأنه هو المبلغ لهذا التحريم، فليس بين الآية والحديث تعارض على هذا المعنى أبداً.

ومما يؤكد هذا المعنى: أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم إنَّ إبراهيم دعاك لمكة"، وهذا يدل على أَنَّ تحريمها إنما كان بعد دعاء إبراهيم، عليه السلام، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولم يحرمها الناس"، إنما عني به أَنَّ تحريمها لم يكن بتواطؤٍ من الناس، وإنما كان بوحي من الله تعالى لإبراهيم، وهو في كلامه - صلى الله عليه وسلم - هذا يُقَرِّرُ أَنَّ هذه الحرمة لمكة - والتي تُقِرُّ بها قريش - لم يكن لقريش أي فضلٍ فيها، وإنما كانت بوحي من الله تعالى لإبراهيم عليه السلام، ولم يُرِدْ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ولم يحرمها الناس" عموم الناس، وإنما أراد عموم الناس من غير الأنبياء، بدليل أنه أضاف التحريم إلى إبراهيم في حديث آخر، فدل على أَنَّ قوله: "ولم يحرمها الناس" عامٌ أُريد به الخصوص، والله تعالى أعلم. (٢)

****


(١) تقدم تخريج هذه الأحاديث في أول المسألة.
(٢) جميع الأحاديث الواردة في مبحث الترجيح سبق تخريجها في أثناء المسألة.

<<  <   >  >>