[إثبات صفة الخفض والرفع لله عز وجل]
(الخفض والرفع) : فالله سبحانه وتعالى يخفض خفضاً حسياً وخفضاً معنوياً, فالخفض الحسي مثل خفض المنافقين في النار, حيث جعلهم تحت الكافرين فيها، ومثل خفضه لبعض المخلوقات عن بعض, فهذا هو الخفض الحسي، ومنه الخسف وغيره.
وأما الخفض المعنوي: فهو مثل خفضه لمنزلة الكافرين في الدنيا وفي الآخرة، كخفضه في الدنيا لمنزلة أكثر الكافرين على أتباع عيسى بن مريم، فقد جعل أتباعه فوق الكافرين إلى يوم القيامة, فخفض الكافرين تحت رئاسة أتباع عيسى إلى يوم القيامة, كما تعهد بذلك لعيسى في قوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:٥٥] .
وكذلك فإن من صفاته الرفع, وهو كذلك رفع حسي ورفع معنوي, فالرفع الحسي: مثل رفعه للأعمال الصالحة, كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠] .
ومثل رفعه لبعض عباده رفعاً حسياً كرفعه لإدريس عليه السلام، فقد قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:٥٧] , وذلك في السماء الرابعة، حيث لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فيها.
ومثل ذلك رفع الأرواح التي تعرج إليه فإنه يرفعها.
وأما الرفع المعنوي: فهو رفع بعض الناس درجات فوق بعض, وقد تعهد الله بذلك للمؤمنين ولأهل العلم في قوله تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:١١] , وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تواضع لله رفعه) , فالتواضع مدعاة للرفعة يرفع الله به الدرجات, وكذلك ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، أو درجات في الجنة) , فهذا رفع حسي بالنسبة لرفع الدرجات في الجنة.
ومثل هذا رفعه سبحانه وتعالى لكتابة أعمال المتقين، فإنه يرفعها فيجعلها في عليين, واختلف في تفسير عليين فقيل: هو اسم لأعلى الجنة, وقيل: هو الكتاب الذي تكتب فيه أعمال الصالحين, وهو مشتق من العلو؛ لارتفاع منزلته ومكانته, فقيل: هو جمع علِّيٍّ، والعلي: المرتفع، ومن ذلك قول الشاعر: كأن حوطاً جزاه الله صالحةً وجنةً ذات عليٍّ وأشراع لم يقطع الخرق تمسي الجن ساكنه برسلة سهلة المرفوع هلواع والآية محتملة للأمرين؛ لأنه جاء ذكر عليين في الآية مرتين, فقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:١٨] , وإذا أخذنا بهذا الجزء من هذه الآية ترجح المعنى الأول: أن عليين معناه أعلى الجنة، لكن قال بعدها: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:٨-٩] ففسر عليين بالكتاب, وحينئذٍ إذا أردنا الجمع بين القولين في الآية، فإما أن نقول في الآية الأولى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:١٨] , أي: في أعلى الجنة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين:١٩] {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:٩] محل كتاب مرقوم، فيكون على حذف مضاف.
وإذا أردنا الجمع على القول الثاني فنقول: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ) معناه: كلا إن كتابة عمل الأبرار لفي عليين، أي: في الكتاب {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:٨-٩] , فيكون الكتاب بمعنى الكتابة, وكون الكتاب بمعنى الكتابة وارد في القرآن وفي السنة, فمن القرآن قول الله تعالى في ثنائه على عيسى عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [آل عمران:٤٨] , فالكتاب الذي يعلمه عيسى إنما هو الكتابة؛ لأنه لو كان الكتاب معناه الكتب المنزلة لأغنى عن ذلك قوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [آل عمران:٤٨] , فالكتاب المنزل الذي تعلمه عيسى هو التوراة والإنجيل, فلما عطف التوراة والإنجيل على الكتاب علم التغاير؛ لأن العطف يقتضي المغايرة, فلهذا كان المقصود أن يعلمه الكتابة, وكان عيسى من كتاب العالمين المشاهير، ومن أحسن الناس كتابة.
وهذا الخفض والرفع من هاتين الصفتين ورد في السنة أيضاً في حديث قبض الأرواح: أن الملائكة يرتفعون بها إلى السماء, فإن كانت روحاً مطمئنة استأذنوا ففتحت لها أبواب السماء, وإن كانت نفساً خبيثةً لم تفتح لها أبواب السماء، وقيل: ارجعي من حيث جئت لا مرحباً بالنفس الخبيثة.
وكذلك فيما يتعلق بالرفع الحسي في الحديث: رفع جبريل قرى قوم لوط حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم ردها على الأرض, وهذا بإذن الله سبحانه وتعالى وأمره.
ومن هاتين الصفتين اشتق اسمان من أسماء الله تعالى وهما: الخافض والرافع, وقد رتبهما الشيخ على هذا الترتيب، على ترتيب الاسمين في السنة في حديث أبي هريرة في ترتيب الأسماء، فقد جاء فيه الخافض قبل الرافع, ومما يدل على ذلك من النصوص أيضاً قول الله تعالى: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:٢٦] , فهذا وإن كان بغير اللفظ إلا أن معناه هو معنى الرفع والخفض المعنوي لا الحسي.
وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة الذي أخرجه أحمد في المسند والحاكم في المستدرك وغيرهما: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة، وسكت) .
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره أنه قال: (كان حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) ، وذلك في قصة القصواء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يكن يقوى لها شيء، ولا تسابقها راحلة إلا سبقتها، حتى جاء أعرابي على قعود له أحمر فسبقها، وقد جاء في هذا الحديث الوضع مقابل الرفع، فهو صفة أخرى تقابل هذه، والجميع من الصفات الفعلية: الخفض والرفع والوضع.