[إثبات صفة الهداية والإضلال لله عز وجل]
ومن الصفات المتقابلة قوله: (يهدي ويضل) , وهذا فيه إثبات لصفتين متقابلتين وهما الهداية والضلالة.
فالله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء, فمن هداه فبفضله ومن أضله فبعدله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] , وهداية الله سبحانه وتعالى صفة من صفات الأفعال, لكنها تنقسم إلى قسمين: هداية إرشاد وهداية توفيق: فهداية الإرشاد هي إرساله للرسل وإقامته للحجة بالدليل العقلي والعلمي, فيهدي عبده بأن يريه الطريق, وهذه الهداية لا تقتضي نجاته, بل قد يعمل الإنسان بمقتضاها فينجو، وقد يخالفها فلا ينجو؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:١٧] ، وهداية الإرشاد هذه كثيراً ما يقابلها العمى في القرآن.
وقد أثبتها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢] .
وأما الهداية الثانية: فهي هداية التوفيق، وهي من صفات الله المختصة به فلا يتصف بها من سواه، ولذلك نفاها عن رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦] , ولذلك ينبغي لمن يقرأ الفاتحة أن ينوي في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] , هداية التوفيق لا هداية الإرشاد؛ لأن هداية الإرشاد قد حصلت، ويبقى أن يسأل الله هداية التوفيق, وهي الاستقامة بعد أن عرف المنهج، فهداية الإرشاد معناها مجرد أن تقوم عليك الحجة, وقد قامت عليك بهذا الكتاب الذي تقرؤه وبالرسول الذي جاء به، وهداية التوفيق هي التي تسألها الله، فتسأله أن يوفقك لما يرضيه ولسلوك طريق الذين ارتضاهم.
وهذه الهداية يقابلها الإضلال، والهداية والإضلال يترتبان على المحبة والكره, فمن أحبه الله هداه، وكل من تعلقت به صفة المحبة لابد أن يهديه الله, وكل من تعلق به المقت والبغض لابد أن يضله الله.
ولهذا فإن الناس ينقسمون في الآخرة إلى سعداء وأشقياء فقط: فالسعداء هم الذين هداهم الله حين أحبهم، والأشقياء هم الذين أضلهم الله حين مقتهم.
وفي الدنيا ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: إلى مؤمن ومنافق وكافر، لكن في الآخرة هم قسمان فقط, {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:١٠٥] , فالشقي: يشمل الكافر والمنافق، والسعيد: هو المؤمن الذي مات على الإيمان.
وهذا الإضلال يشمل إضلالين: إضلالاً عاماً: وهو من بداية عمر الإنسان إلى أن يموت على ضلالته.
وإضلالاًً خاصاً: وهو الإضلال في الخواتيم, وهو أن يختم الله له بالضلالة، نسأل الله السلامة والعافية.
ولا اعتراض على الله سبحانه وتعالى في اختياره: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:٦٨] ، وقال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:٥١] , فيختار من شاء للهداية على أساس حكمته وعلمه الذي لا إخلاف فيه ولا تناقض، ويختار من شاء -نسأل الله السلامة والعافية- للضلالة, فيضله ويحول بينه وبين الهداية, حتى لو قامت عليه كل الحجج وجاءته الهداية -هداية الإرشاد- فإنه لا ينتفع بها كما قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:١٠٩-١١١] , فهذا يدلنا على أن هداية التوفيق منحة ربانية, فليست راجعة إلى عقل ولا إلى علم, وإنما هي منحة ربانية يهبها لمن يشاء؛ ولذلك قال الله تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:١٣] , فهذا اختيار رباني.
وقد جاء في حديث المهدي أنه يصلحه الله في ليلة, فهو لم يكن مهتدياً ولكن الله يهديه ويصلحه في ليلة واحدة.