[الرد على المؤولين لكلام الله]
فهذا الكلام كله كلام الله، وعلى هذا فهو كلامه بالحقيقة لا بالمجاز، وهذا الذي يقول فيه السيوطي رحمه الله: كلامه القرآن ليس يخلق وهو بلا تجوز ما تنطق ألسننا به وفي المصاحف خط ومحفوظ بصدر العارف فالذي تنطق ألسنتنا به وهو مكتوب في مصاحفنا ومحفوظ في صدورنا هو كلام الله على الحقيقة لا على المجاز، وهو الكلام الذي تكلم الله به.
وأما المتأولة فإنهم غلطوا في ذلك فاختلفوا فيه، وهذا الخلاف هو الذي أشار إليه الشيخ هنا إشارة عابرة؛ لأنه لا يريد أن يذكر أقوال الفرق، لكن أراد الرد عليها فقط بلطف، فقال: فذر قولهم القرآن قد دل على الـ كلام أو على الذي الكلام دل قوله: (فذر) معناه: اترك.
وقوله: (قولهم) أي قول المتأولين من المتكلمين، (القرآن قد دل على الكلام) أي: أنهم يزعمون أن القرآن قد دل على الكلام، ويرون أن الكلام المقصود به الكلام النفسي الذي لا لحن فيه ولا إعراب ولا تقديم ولا تأخير.
والقرآن على هذا يكون جميعاً بمعنىً واحد؛ لأنه لو كان دالاً على صفة واحدة من صفات الله لما اختلف؛ لأن الصفة لا تختلف، ولو كان كذلك أيضاً لكان معنى كل كلمة من القرآن هو معنى الكلمة التي بعدها، فيكون معنى قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:٢٥٥] هو معنى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:٦] ، ويكون هو معنى قوله: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:١] ، وهذا مستحيل، فلا يمكن أن يكون هذا الكلام الذي فيه الخبر والوعد والوعيد والأمر والنهي والقصص تعبيراً عن صفة واحدة، ولا ترجمة لصفة واحدة، ولو كان كذلك أيضاً لكان القرآن والتوراة والإنجيل والزبور معناها واحد.
ولهذا فإنهم يغلطون في هذا الباب فيقولون: يعبر عنه بالعبرانية فيكون توراة، وبالسريانية فيكون إنجيلاً، وبالعربية فيكون قرآناً.
وهذا خطأ بالكلية؛ فشتان بين التوراة والإنجيل من حيث التقسيم والأحكام، وشتان بينهما وبين القرآن من حيث المعاني والأحكام والإعجاز والترتيب وغير ذلك.
وهذا المعنى هو الذي نظمه أحدهم بقوله: تلاوة له دلتنا مطابقة على معاني كلام غير أصوات وأول الناس قولاً جاء عن سلف بأن ذلك من حذف الإضافات عنوا بـ (دل على الكلام) دل على مدلوله فاشتروا حذفاً بإثبات قلت ومن يشو بيت الشنفرى خرق يخط الخمائل من غض الكنايات قوله: (تلاوة له) أي: نطقنا نحن به.
وقوله: (دلتنا مطابقة على معاني كلام غير أصوات) ، أي: أن هذا اللفظ يدل على معانٍ وراءه، وهذا لا نختلف فيه.
وقوله: (وأول الناس) يقصد المتكلمين ممن هم على مذهبه هو.
وقوله: (قولاً جاء عن سلف) أي: مذهب السلف في القرآن كلام الله.
وقوله: (بأن ذلك من حذف الإضافات) ، أي: أنه من حذف المضاف، ومعناه: أن القرآن معنى كلام الله، أو مدلول كلام الله.
وقوله: (عنوا بدل على الكلام دل على مدلوله فاشتروا حذفاً بإثبات) أي: وضعوا الحذف مكان الإثبات.
وقوله: (قلت ومن يشو بيت الشنفرى خرق يخط الخمائل من غض الكنايات) أشوى الصيد بمعنى: أصابه على الشوى، والشوى: الطرف، والصيد إذا أصيب في شواه لم يتأثر ولم يصطد.
والشنفرى هو الشاعر المعروف، والبيت المشار إليه بقوله: (خرق) أي: الذي فيه هذه الكلمة وهو قوله: ولا خرق هيق كأن فؤاده يظل به المكاء يعلو ويسفل فهذا من باب الكناية؛ لأن المقصود (ولا خرق هيق كأن فؤاده) أي: قلبه.
وقوله: (يظل به المكاء يعلو ويسفل) أي: يظل يرتجف كأن طائراً يمسك بقلبه فيصعد به وينزل، وليس المقصود أن الطائر فعلاً يحمل قلبه ويصعد به وينزل، بل المقصود: أن قلبه مندهش يتقلب، فهو خائف غاية الخوف، لكن هذا الكلام غير صحيح؛ لأن مبناه على المبالغة في صفة المخالفة؛ لأنهم فهموا الكلام على أنه مثل كلام المخلوق تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فاضطروا لأن يأولوه، ونحن نعلم أن كلام الله يليق بجلاله، وأنه أثبته لنفسه، وأنه كلامه، فلا داعي لكل هذا التأول، ولذلك قال: (قولهم القرآن قد دل على الـ كلام أو على الذي الكلام دل) ومعناه: هو على الذي دل الكلام عليه.