[إثبات صفة الحكم لله عز وجل]
يقول الشيخ حفظه الله: يحكم بالحق يستفهم وهو أعلم.
كذلك من الصفات المثبتة لله سبحانه وتعالى صفة الحكم، فقد أثبتها لنفسه في كثير من الآيات، وإثباتها في القرآن جاء بصيغة الفعل، وجاء بصيغة الاسم بالحصر: فصيغة الاسم مثل قول الله تعالى على لسان يعقوب ويوسف عليهما السلام: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:٦٧] ، فيعقوب عليه السلام يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:٦٧] ، ويوسف عليه السلام يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:٤٠] ، وكذلك قول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:١٠] .
وبالفعل مثل قوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة:١١٣] ، ونحو هذا من الآيات التي فيها الإثبات بالفعل.
والمقصود بالحكم الفصل، والفرق بينه وبين صفة القضاء: أن صفة القضاء يختلف إطلاقها باختلاف المخاطب، فمثلاً: قول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:٢٣] ، إن كان الخطاب لأمة الدعوة فقضى هنا بمعنى: أمر، وإن كان الخطاب لأمة الإجابة فقضى بمعنى: أوجب، فالقضاء المطلق هو بمعنى الأمر فقط الذي لا يشمل جزماً، وإن كان لأمة الإجابة الذين آمنوا وصدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم فهو على سبيل الإيجاب والجزم.
أما الحكم فلا يكون إلا جازماً، ولذلك فالقضاء قد يكون بالخطاب التكليفي الشرعي وقد يكون بالخطاب القدري، فإن الله يقضي بمعنى: يوجب، أو يحرم، فهذا هو قضاؤه التشريعي، أما قضاؤه القدري فمعناه: تنفيذ ما علم وأراد أن يقع في الأزل، فما أراده الله يقضيه، أي: ينفذه ويوقعه على وفق إرادته وعلمه.
أما الحكم فكذلك يتعلق بالدنيا والآخرة: ففي الدنيا يطلق على الخطاب التشريعي، كقول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:١٠] .
وفي الآخرة يطلق على فصل الخصام يوم القيامة عندما يتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام، فيختصم الناس إليه، وحينئذٍ يقام الخصام بين كل فريقين اخلتفا، فكل خلاف في الدنيا يُفصل في ذلك الوقت، ولذلك سمي ذلك اليوم يوم الفصل، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الله أكبر! أنا أول من يجثو بين يدي ربي يوم القيامة للخصام، حين أنزل الله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:١٩-٢١] ) ، وهؤلاء هم الذين كفروا من أهل المبارزة يوم بدر وهم: عتبة بن ربيعة.
وشيبة بن ربيعة.
والوليد بن عتبة بن ربيعة.
والذين آمنوا الذين يخاصمونهم وهم الخصم الثاني هم: علي بن أبي طالب.
وحمزة بن عبد المطلب.
وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.
فيجثو الناس بين يدي الله سبحانه وتعالى للخصام، ولذلك قال الله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:٢٨] ، فهذا هو الحكم الأخروي المذكور في قوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:١١٣] وكثير من الآيات فيها تعليق الحكم بيوم القيامة.
ومثله قول الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:٤٦] ، والمقصود: الحكم الأخروي، ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنه إذا ذكر وقعة الجمل يقول: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:٤٦] ، يقصد بذلك إحالة الحكم في مثل هذا إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهو الذي يفصل فيه وحده.
وحكم الله سبحانه وتعالى بالحق دائماً؛ لأنه لا يقول إلا الحق، كما قال تعالى: {وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص:٨٤] ، ولذلك فإن الملائكة عليهم السلام إذا فزع عن قلوبهم قالوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:٢٣] ، فحكمه لا يكون إلا بالحق، وهذا الحق معناه: الحق المحض الذي ليس فيه جور ولا ظلم ولا تهافت ولا تناقض ولا اختلاف في وجه من الوجوه؛ فليس مثل حكم غيره، فالحاكم في الدنيا حاكم مخلوق حتى لو كان معصوماً فإنه يحكم وفق البينة ووفق ما يسمع، لكن قد لا يكون ذلك حقاً محضاً، ولهذا جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجلين اللذين اختصما عنده: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنما أقتطع له جمراً من النار، فليأخذه أو ليدعه) .
فالحاكم الدنيوي يقضي، ولكن قضاءه لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، وإنما هو بحسب الظاهر فقط، أما حكم الله تعالى فهو الحق المحض الذي لا يمكن أن يقع فيه اختلاف ولا لبس، وهذا وجه الفرق بين صفة الله وصفة المخلوق، فالحكم يثبت للمخلوق ويثبت لله سبحانه وتعالى، لكن حكم الله بالحق دائماً، وحكم المخلوق الله أعلم به؛ فقد يوافق الحق وقد لا يوافقه، ولهذا قال: يحكم بالحق.