للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ذكر الشاهد على إضافة (ذات) من شعر النابغة]

وقوله: (وقال نابغة ذبيان الذرب) معناه: ومثل ما قال نابغة ذبيان وهو النابغة الذبياني من بني ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد، والنابغة أحد شعراء الجاهلية المشاهير، وكان هو حكم أهل الجاهلية في سوق ذي المجاز وفي سوق عكاظ يتحاكمون إليه في شعرهم، وهو أحد الذين علقت قصائدهم على الكعبة، وأحد الشعراء الستة الجاهليين الذين هم أشهر أهل الجاهلية شعراً، مع أن معلقة النابغة اختلف فيها ما هي؟ فقال طائفة من أهل العلم: هي قوله: يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت فطال عليها سالف الأبد أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لبد وقالت طائفة أخرى هي قوله: عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار ماذا تحيون من نؤي وأحجار والنابغة هذا كان حكيماً في الجاهلية معروفاً، وقد عاش حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه لم يسلم، ويمكن أن لا تكون قد بلغته الدعوة، وكان ناقداً بليغاً في النقد، فحين أنشده حسان بن ثابت أبياته التي يفخر فيها ويقول: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دماً بين له أنه في هذا البيت وحده أخطأ عدة أخطاء، فقال: قال: جفنات، ولم يقل: جفان، مع أن جفنات جمع قلة.

وقال: الغر، ولم يقل: البيض، والغر بياض الوجه فقط.

وقال: يلمعن، ولم يقل: يضئن.

وقال: بالضحى، ولم يقل: بالدجى؛ لأن الضحى لا فائدة من الضوء فيه.

وقال: وأسيافنا، ولم يقل: سيوفنا، والأسياف جمع قلة.

وقال: يقطرن، ولم يقل: يجرين، وهي أبلغ منها وأشهر.

والنابغة يقول في قصيدته التي يمدح بها الحارث بن أبي شمر الغساني التي مطلعها: كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب تطاول حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجوم بآيب يقول فيها في مدح بني جفنة: حلفت يميناً غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب لئن كان للقبرين قبر بجلق وقبر بصيداء الذي عند حازب وللحارث الجفني سيد قومه ليلتمسن بالجيش دار المحارب إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم عصائب طير تهتدي بعصائب يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم من الضاريات بالدماء الدوارب لهن عليهم عادة قد عرفنها إذا عرض الخطي فوق الكواثب ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب تورثن من أزمان يوم حليمة إلى اليوم قد جربن كل التجارب تقد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب محلتهم ذات الإله ودينهم قويم فما يرجون غير العواقب وهذا البيت هو محل الاستشهاد، وفيه روايتان: إحداهما: مجلتهم ذات الإله ودينهم قويم فما يرجون غير العواقب والأخرى: محلتهم ذات الإله ودينهم قويم فما يرجون غير العواقب ومعنى مجلتهم، أي: مكان إجلالهم وتعظميهم الذي يجلونه ويعظمونه هو ذات الإله، ومعناه: ملة الله وشريعة الله، والرواية الأخرى: محلتهم ذات الإله: أي: أن الذي يعدلون به ويرجعون إليه في أمورهم هو شرعة الله، ولا يرجعون إلى هواهم ولهذا قال: (فما يرجون غير العواقب) أي: أمور الآخرة، فهنا قال: (ذات الإله) ولم يقل: ذات الله، فأضاف لفظة (ذات) إلى الإله؛ لأنه ليس علماً ولا ضميراً، فهذا هو السياق اللغوي.

والذرب معناه: الذي تعود على أن لا يغلب في الكلام ولا في غيره، والذرابة: هي طلاقة اللسان، وقد تكون محمودة وقد تكون مذمومة، فإذا كانت في الحق كانت محمودة، وإذا كانت في غيره كانت مذمومة، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف أهل النار بأنهم: (كل عتل جواض متفيهق مستكبر) متفيهق معناه: الذي يكثر الكلام ويتشدق به، وذكر في وصف المنافقين أنهم يتخللون بألستنهم كما تتخلل البقر بألسنتها، فهذا النوع من التفيهق والتقعر في الكلام والتكلف فيه مناف للشرع؛ ولذلك لا يكون مدحاً.

ولا يخفى أن كثيراً من الناس تعرفهم في لحن القول يتفيهقون في الكلام، ويتفاصحون فيه ويتقعرون فيه، وهذا الوصف نلومه، بل قد يقتضي نفوراً، كما حصل لرجل كان في الوفاة فدخل عليه رجل يريد أن يلقنه الشهادة فقال: قل: لا إله إلا الله، ولك أن تقول: لا إلهٌ إلا الله! ولك أن تقول: لا إلهاً إلا الله! فقال: أخرجوه عني.

لأنه تقعر له في الكلام، والله سبحانه وتعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:٨٦] فهذا التكلف مذموم شرعاً، فمن أجل هذا فإن الذرابة في وصف النابغة يمكن أن تكون من باب الذم؛ لأنه جاهلي وقد جاء في شعره كثير من معاني الجاهلية، ويمكن أن تكون أيضاً بمعنى الفصاحة والبلاغة فقد اشتهر بكثير من الإبداع العجيب، وبالأخص فيما يتعلق بالاعتذار، فهو أشعر الناس في مجال الاعتذار، وذلك في اعتذاره للنعمان بن المنذر.

<<  <  ج: ص:  >  >>