[إثبات صفة النزول لله جل وعلا]
قال: [وحامل وإلى دنيا السما ينزل كل ليلة لا مثلما ينزل مخلوق بإخلا حيِّز منه وشغل حيز فميِّز] هذه صفة أخرى من الصفات الفعلية وهي صفة النزول، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا وذلك حين يبقى ثلث الليل، فلا يزال يقول: ألا من يدعوني فأستجيب له ألا من يسألني فأعطيه) فهذا النزول صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى، والمقصود به التجلي، فالله سبحانه وتعالى قريب في علوه علي في دنوه، فنزوله إلى السماء لا يقتضي منافاة علوه، بل هو العلي في دنوه.
واستواؤه على العرش أيضاً لا يقتضي بُعده، بل هو القريب في علوه، وهذا كله يقتضي قطع مشابهته لخلقه، فهو أقرب إليهم من حبل الوريد، وفي الحديث أنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، وقال: (إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنه سميع مجيب) .
وهذا النزول فيه حكم عظيمة منها: أنه تشريف للعابدين في هذه الساعة، مثلما جاء في الإخبار عن ضحك الله لمن يصلي في جوف الليل، وضحكه لمن يقوم في الصف للصلاة، وأن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف، ونحو ذلك، وهو مثل قوله: (فإن أتاني يمشي أتيته هرولة) فهو من قربه من عباده وإكرامه للعبَّاد منهم.
وقد خصص هذا الوقت من الليل بميزات عظيمة، فمنها أنه وقت كسل ونوم؛ ولهذا لم يشرع الله فيه فريضة لئلا يكون ذلك عنتاً على عباده، ولكنه جعله مجالاً للتنافس: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:٢٦] ، فيتنافس الناس في التقرب إلى الله في هذا الوقت، ولهذا قال الحافظ أبو الحسن الإشبيلي رحمه الله في مقدمة كتابه التهجد: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته، فخروا بين يديه متذللين ولوجهه معظمين، فلم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً.
فهذا وصف عجيب جداً، هؤلاء يخرون في هذا الوقت، فتجافي جنوبهم المضاجع، ويخرون بين يدي الله سبحانه وتعالى فيقدمون إليه عبادتهم، ويتذللون بين يديه ويقدمون إليه طلباتهم وحوائجهم، في الوقت الذي لم يؤذن فيه لكثير من الناس، فهذا الوقت حجب فيه كثير عن باب الملك الديان، بعضهم حجب بالكفر وبعضهم حجب بالفسوق وبعضهم حجب بالغفلة وبعضهم حجب بملذات الدنيا وشهواتها من النوم وغيره، وبعضهم حجب بالمرض، فإذا أذن الله تعالى لقوم وشرفهم بأن يطرقوا الباب في هذا الوقت فيفتح لهم، فهذا تشريف عظيم جداً يستحضر الإنسان به مدى سعادته حين يتذكر أن من حوله يغطون في نومهم وأنه قد أذن الله له في هذا الوقت بأن يباهي به ملائكته.
ولهذا فإن هذا النزول لا يمكن أن يقاس بالصفات الفعلية الأخرى، فلا يمكن أن تقول: إن الله في الثلث الأخير من الليل دائم النزول باعتبار اختلاف البلدان، فما من ساعة إلا وهي أول الليل على قوم وفي النهار على قوم ووسط النهار وآخره على قوم، فليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود: أن هذا الوقت من الليل لكل طائفة من الناس هو هذا الوقت الذي شرف فيه أهل ذلك المكان، ولا تعارض في صفات الله، بل هو قادر على ما يشاء، كما أنه الآن يأمر ملايين الأوامر في وقت واحد وكلها يقول لها: كن فيكون، وليس هناك أمر قبل أمر ولا نهي قبل نهي، والحركات التي يتحرك بها العباد وتصور الآن المليارات منها في لحظة واحدة كلها بأمره، ولا يكون أمر قبل أمر، بل هي في لحظة واحدة كلها قال لها: كن.
فلهذا قال: (وإلى دنيا السما) ومعناه: إلى السماء الدنيا وهي سماء هذه الدنيا، والدنيا مختلف فيها: هل هي من الدنو أو من الدناءة؟ فقالت طائفة من الناس: الدنيا التي هي هذه الدار مشتقة من الدناءة؛ لأنها متدنية القيمة عند الله، ولو كانت تساوي عنده جناح بعوضة ما سقى كافراً شربة ماء، كما جاء في الحديث، وقيل: هي من الدنو؛ لأنها قبل الأخرى فهي أدنى منها إلينا، أي: أقرب وأدنى من الدار الآخرة، وسماء هذه الدنيا السماء الأولى.
(في كل ليلة لا مثلما ينزل مخلوق) وهنا اضطر أن ينفي ما تتوهمه العقول الضعيفة إذا قرأت صفة النزول، فيتوهم بعض الناس أن نزوله مناف لاستوائه، فوقت النزول لا يكون مستوياً فيه على العرش، ووقت الاستواء لا يكون فيه نزول إلى السماء!! قال: هذا إنما هو في صفات المخلوقين، أما في صفات الله فلا.
(لا مثلما ينزل مخلوق) لأن نزول المخلوق فيه شغل حيز وخلو حيز منه، والله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان ولا يمكن أن يشمله ولا أن يحيط به مكان، وما الفرق بين أوامره التي تأتي في لحظة واحدة على المليارات من الحركات والسكنات والموت والحياة وغير ذلك، وبين نزوله واستوائه، فالجميع من صفات الله سبحانه وتعالى.
(لا مثلما ينزل مخلوق بإخلا حَيز منه وشغل حيز فميز) و (الحيز) معناه: المكان الذي يحوز الشيء ويحويه، والمعنى: ميز بين صفات الله وصفات خلقه، فلابد من التمييز هنا بين صفات الله العظيمة وبين صفات خلقه التي هي على قدرهم؛ لذلك أردف هذا بصفة أخرى وهي صفة العلو، وهذا مناسب جداً أن تذكر صفة العلو بعد صفة النزول؛ لأنه هو العلي في نزوله والقريب في علوه كما ذكرنا.