ثم قال:(اتخذ خليلاً إبراهيم) : وهذه صفة أخرى وهي اتخاذ إبراهيم خليلاً، وقد أثبتها الله لنفسه في قوله:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}[النساء:١٢٥] .
وهذا تشريف عظيم لإبراهيم عليه السلام حيث اتخذه الله خليلاً، فخالط قلبه حب الله سبحانه وتعالى فتخلله حتى لم يبقِ فيه محلاً لشيء آخر.
ومعنى الخلة: أن تتخلل المحبة القلب حتى لا تدع فيه محلاً لأي شيء آخر، فإبراهيم قد ملأ قلبه حبُّ الله فلم يبقَ فيه محل لولد ولا أهل ولا وطن ولا أي شيء آخر، فخرج عن أقاربه جميعاً متجهاً إلى الله، وهاجر في ذات الله عز وجل، وقال:{إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}[العنكبوت:٢٦] ، وترك أمته وولده بمكة في واد غير ذي زرع، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا.
ولما أوحي إليه بذبح ولده قال:{يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}[الصافات:١٠٢] ، فلم يُبقِ في قلبه مكاناً لمحبة أي شيء غير محبة الله سبحانه وتعالى، فاستحق بذلك جائزة كبرى هي: الخلة، فاصطفاه الله من خلقه خليلاً.
وهذه الخلة أيضاً أعطاها الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد اتخذه الله خليلا، فقد ثبت عنه أنه قال:(لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله) .
وخلة الله هي أعلى منازل العبادة، ولم تثبت إلا لرجلين فقط: إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم.
قال:(مَن أوَّل شذ) أي أن هذه الصفات كلها من أوَّل شيئاً منها شذ، أي: انحاز عن الطريق المستقيم، والشذوذ معناه الانفراد عن الجادة، يقال: هذه الدابة شاذة نادة، أي تهرب عن البهائم ولا تسير معها في طريقها.