ثم جاء الغزالي بعد هذا فطور النظرية، فأتى بنظرية وحدة الشهود، فقال: الواقع أن المخلوق لا يمكن أن يتصل بالخالق بوجه من الوجوه، لكن يصل المخلوق من تطهير نفسه وتزكيتها وصقل بصيرته إلى أن يكون بحيث لا يشاهد غير الله سبحانه وتعالى، وتكون المخلوقات عنده وإن كانت موجودةً إلا أنها في قيمة المعدوم، فلا يخاف شيئاً، ولا يرجو شيئاً، ولا يحس بشيء غير الله سبحانه وتعالى.
وهذه بعضها يصل إلى درجة التكفير، وبعضها ليس كذلك، فهي نظرية عموماً فيها المقبول والمردود، ما كان منها مقبولاً هو: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهو مقام المراقبة، وما كان منها مردوداً فهو ما زاد على هذا من الغلو الذي أضافه من وحدة الشهود، وهي أيضاً من المزالق الصعبة، ولذلك أخذ بها بعض الذين اقتدوا بـ الغزالي من بعده، ومنهم: الهروي الحنبلي مؤلف كتاب منازل السائرين، وقد دافع عنه ابن القيم وأراد أن يلتمس له العذر في كتابه مدارج السالكين، وكذلك تأثر به الشيخ عبد القادر الجيلاني ودافع عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض المواقف، وإن كان بعض كلامه لا يحتمل الدفاع، لكن شيخ الإسلام يقول عنه: إنه قاله في الشطح بزوال العقل فهو مرفوع عنه التكليف في ذلك الوقت، وهذا مثل قوله:(قدمي هذه على رقبة كل ولي لله تعالى في السماء أو في الأرض) ونحو هذا من الكلام، وهو الذي يقول: زيارة أرباب التقى مَرْهمٌ يُبري ومفتاح أبواب الهداية والخير وتحدث في القلب الخلي إرادةً وتشرح صدراً ضاق من شدة الوزر وتنصر مظلوماً وترفع خاملاً وتكسب معدوماً وتجبر ذا كسر إلى أن يقول: ولا فرق في أحكامها بين سالك ورب ومخدوم وحي وذي قبر وذي الزهد والعباد والكل منعم عليهم ولكن ليست الشمس كالبدر فزر وتأدب بعد تصحيح نية تأدب مملوك مع المالك الحر البيت الأخير فيه مبالغة واضحة.
ونظير هذا ما حصل لعدد من المنتسبين إليه في مختلف الفترات، فكلهم يدخل في مقام وحدة الشهود هذه، فيتكلمون بكلام من باب الشطح، مثل ما حصل لـ زروق مما يروى عنه أنه قال: أنا لمريدي جامع لشتاته إذا ما سطا طور الزمان بنكبة فكم كربة تجلى إذا ذكر اسمنا وكم طرفة تجنى بأثمار صحبتي فإن كنت في هم وضيق وكربة فناد أيا زروق هات بسرعة ومثل هذا حصل لعدد من الناس حتى لوالد أبي بكر ابن العربي رحمه الله في قصة ذهابه إلى الغزالي، لكن كل هذه الأقوال إنما تصدر ممن كان منهم صالحاً في وقت غيبوبة عقله، ومن كان منهم فاسداً مثل عدد منهم يقع منه هذا لفساد عقيدته وفساد حقيقة أمره، فمن كان منهم صالحاً التمس له من عرفه العذر، مثل عبد القادر الجيلاني، ومثل زروق، ومثل ذي النون المصري وغيره، ومن كان معروفاً بعدم الالتزام والصلاح لا يلتمس له العذر في مثل هذا، ومع هذا فإنه لا يلتمس العذر لأتباعهم الذين وافقوهم على هذا مطلقاً؛ لأن أتباعهم ليسوا مثلهم فيما يتعلق بالشطح الذي قالوه في هذا الكلام، ومن هنا فكان كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على الإخنائي ورسالته للبكري، وكذلك وصيته الكبرى التي يرد بها على أتباع عدي بن مسافر، كلها من هذا القبيل، يقول: إن هؤلاء المشايخ عرفوا بالصلاح والورع، وحصلت منهم أقوال غير مرضية، وكل أحد يؤخذ من قوله ويرد، فلا تتبعوهم في تلك الأقوال التي أخطئوا فيها.