[إثبات صفة التوبة لله عز وجل]
(يتوب يرحم) : هذه صفة من صفات الأفعال, ولم يذكر لها مقابل، وقد اشتق منها اسم الله سبحانه وتعالى: التواب) ، وتوبة الله سبحانه وتعالى على عباده قسمان: توبة سابقة لتوبة العبد, وتوبة لاحقة لتوبة العبد, فالتوبة السابقة لتوبة العبد هي التي تقتضي توفيقه لأن يتوب, والتوبة اللاحقة هي التي تقتضي قبول توبته فلا يمكن أن يتوب أحد حتى يتوب الله عليه، فأولاً يوجه قلبه للتوبة, ثم بعد ذلك إن شاء تاب عليه توبة ثانيه وهي قبول توبته، وإن شاء لم يتب عليه.
ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة:١١٧] , هذه هي التوبة الأولى عليهم بمعنى توفيقهم للتوبة, أي: توفيقهم لأن يتوبوا, ثم قال: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١١٧] , وهذه توبة غير الأولى، ولذلك عطفها بثم، والعطف يقتضي المغايرة: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) .
قال: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:١١٨] , (ثم تاب عليهم) : هذه التوبة الأولى (ليتوبوا) أي: التوبة الثانية وهي التي بدأهم بها في قوله: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) معناه: وقد تاب على الثلاثة الذين خلفوا.
فإذاً: الثلاثة الذين خلفوا لما كانوا يعانونه من الضيق ذكر الله في هذه الآية توبتهم الآخرة قبل توبتهم الأولى, أما النبي والمهاجرون والأنصار؛ فلأنهم ليسوا من أهل هذه المعاناة؛ وقد قفلوا ولم يجدوا كيداً، فإنه جعل التوبة الأولى في الوقوع هي الأولى في الذكر، ثم ذكر التوبة الثانية بعدها على الترتيب.
ونظير هذا فيما يتعلق بالتوبة الشفاعة، فالشفاعة أيضاًَ لا يمكن أن يشفع أحد لدى الله إلا بعد الإذن له بالشفاعة, فيأذن الله له بالشفاعة ثم بعد ذلك يشفع, فالشفاعة تسبق فعل الشافع وتعقبه, تسبقه بالتوفيق له والإذن فيه, وتعقبه بقبوله، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥] , وكما قال تعالى في الملائكة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:٢٨] .