[نفي صفة الإعياء عن الله عز وجل وذكر بعض الأدلة على البعث]
قال: [لم يعي بالخلق ابتداءً من عدم كذاك لا يعيا بإحياء الرمم] كذلك نفى الله عن نفسه صفة الإعياء، أي: التعب بخلق الخلق، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في سورة (ق) : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:١٥] ، وهذا الاستفهام إنكاري معناه: لم نعي بالخلق، وهذا مثال للاستفهام الإنكاري الذي سبق، وكذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:٣٣] ، وهذا دليل من أدلة البعث، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن البعث في سبعمائة وسبعة وستين آية، وأثبته بعدد من البراهين العقلية العجيبة، ومنها: الاستدلال بخلق الأكبر على خلق الأصغر، فالذي يخلق السماوات والأرض لا يعيا أن يخلق إنساناً.
وهكذا الاستدلال بالنشأة السابقة على النشأة اللاحقة وبالنشأة الأولى على النشأة اللاحقة، فهذا الإنسان خلقه الله من عدم فهو الآن يمشي ويتكلم، وإذا صار تراباً أو رميماً فلا يعيي الله ولا يعجزه أن يعيده كما كان؛ لأنه قد خلقه قبل هذا.
وكذلك الاستدلال بإخراج الضد من ضده، فإن المشركين كانوا يفتون العظام ويقولون: يزعم محمد أن ربه سيحيي هذا أو يعيده إنساناً بعد أن صار رميماً، والرميم عندهم ضد الحي تماماً.
فالله يستدل على البعث بإخراجه للضد من ضده، ولذا أخبر أنه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومثل لذلك أيضاً بالنار، كما قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:٧١-٧٣] .
وكذلك استدل على البعث أيضاً باختلاف حال الإنسان نفسه، فالإنسان في حياته يمر به كثير من الأحوال المتباينة، فما الفرق بين حاله في بعثه بعد الموت مع أحواله الأخرى؟! فإنه ينام ويوقظه الله، ويمرض ويبرئه الله ويشفيه، ويجوع ويطعمه الله ويسقيه، ويكون ضعيفاً ويقويه ثم يضعفه بعد قوة، ويكون شعره أسود ثم يعيده ذا شيبة، فهذه أحوال كلها بقدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته، فلا يمكن أن يعجزه تغييره أحوال الإنسان من حال إلى حال.
وترون هذه الأدلة كلها وزيادة عليها في خواتم سورة يس، في قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} [يس:٧٧] ، وهذا إخراج الشيء من ضده، {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:٧٧] ، وهذا تغير حاله وخلقه من نطفة إشارة إلى الأطوار التي يمر بها، وهي التسعة المذكورة في سورة المؤمنون في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٢-١٦] .
كذلك قال: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:٧٧] * {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:٧٨] * {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:٧٩] ، وهذا الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة اللاحقة، {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٩] ، وهذا الاستدلال بعلم الله تعالى بجميع الكائنات حيث لا يفوته ذرة من الإنسان، كما قال تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:٤] ، فلا يمكن أن يذهب منه شيء عن علم الله عز وجل.
ثم قال سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس:٨٠] ، وهذا إخراج الشيء من ضده تماماً، {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [يس:٨٠-٨١] وهذا استدلال بالأكبر على الأصغر {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:٨١] .
ثم استدل بتمام قوته وقدرته وأنه لا يفعل بالعلاج كما يفعل المخلوق، فالمخلوق يعالج، والله سبحانه وتعالى يستحيل عليه العلاج؛ لأن أمره إنما هو كن، فلا يستطيع شيء أن يمتنع عليه أين كان، والمخلوق إنما يعالج ويتعب؛ لأن كثيراً من الأشياء قد تغلبه وتمتنع عليه، والله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يمتنع عليه أي شيء أراده، ولهذا قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢] .
وكذلك من الأدلة على البعث القسم، كما في قوله تعالى: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:٥٣] ، وقوله: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:١] ، فهذا قسم على البعث، ومعناه: لتبعثن، وقد حذف المقسم عليه هنا لعلمه من المجادلة وسبب نزول الآية، ولهذا قال: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:٢-٣] ، فيفهم من الآيات أن المقسم عليه هو البعث، وأن المعنى: لتبعثن.
فلهذا قال: (لم يعي بالخلق ابتداءً من عدم كذاك لا يعيا بإحياء الرمم) وهذا ضرب مثل، ولهذا قال الله تعالى في سورة الروم: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [الروم:٢٧-٢٨] ، فهذا مثل عجيب، فلذلك قال: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:٢٧] ، أي: من ناحية تصورنا نحن، وإلا فالجميع يقول له: كن فيكون.
وأهون هنا معناه: أقل إعجازاً له؛ لأن الشيء إذا عرف وخرج للوجود فابتكره مبتكر وأبدعه مبدع إذا حاكاه غيره وصوره على نفس التصميم السابق، فإن الثاني لا يلحق بالأول في الإبداع، بل الإبداع للأول الذي ابتكره، فلهذا كان الخلق الثاني أقل إعجازاً من الخلق الأول، فأنتم تعجبون من خلقه لكم وإنشائه لكم بعد الموت، فخلقه لكم من العدم في البداية أعظم وأعجب من إحيائكم بعد أن متم؛ لأن الخلق الأول أكبر معجزة وأغرب من الخلق الثاني والإحياء بعد الموت بكثير.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.