[إثبات صفة الإقبال والوجه لله جل وعلا]
قوله: (وأينما يول مستقبل فثم وجه الله جل) هذا مأخوذ من آية البقرة، وهو متضمن لصفتين من صفات الله سبحانه وتعالى: فالصفة الأولى: صفة الإقبال، فالله سبحانه وتعالى يقبل على عبده إذا أطاعه بالعبادة.
والصفة الثانية: إثبات صفة الوجه لله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:١١٥] ، فهاتان الجهتان مملوكتان لله سبحانه وتعالى، فليس التوجه إلى إحداهما تعظيماً لتلك الجهة، بل هي مملوكة لله سبحانه وتعالى، وإنما يتوجه الإنسان حيث أمر فقط، فإذا أمره الله بالتوجه إلى أي جهة توجه إليها.
والمشرق معناه مكان شروق الشمس، والمغرب معناه مكان غروبها، وقد جاء في القرآن لفظ المشرق والمغرب بالإفراد كما هنا: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ، وجاء بالتثنية كما في قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:١٧] ، وجاء بالجمع كما في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:٤٠] .
ومعنى الإفراد: الجنس أي: جنس المشرق، فيشمل جهات الشروق كلها.
وجنس المغرب في جهة الغروب فيشمل أماكن الغروب كلها، والمقصود بالمشرقين والمغربين: مشرق الشتاء ومشرق الصيف، ومغرب الشتاء ومغرب الصيف؛ لأنهما الطرفان، وخطوط العرض ثلاثة؛ ولذلك تسمى المشارق والمغارب، فالمشارق باعتبار الخطوط الثلاثة: مدار السرطان وخط الاستواء ومدار الجدي، وعليها أيضاً المغارب فهي ثلاثة، ولذلك قال: (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) ومع هذا ذكر الطرفين فقط في قوله: (رب المشرقين ورب المغربين) ، فالمشرقان المقصود بهما الطرفان، وجعل ما بينهما وسطاً فهو مندرج فيهما، والوسط إذا اندرج أمكن إسقاطه لذكر الحدين، وكذلك يقال في المغربين.
وقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:١١٥] ، معناها: إلى أي اتجاه أقبلتم (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) فإن أطعتم فإن الله سبحانه وتعالى يقبل على من أطاعه، وإن كان توليكم معصية فإن الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لمن عصاه، ومن هنا لا يمكن أن يعجزه أحد من خلقه، بل لا يمكن أن يتصرف أي تصرف إلا وهو محيط به، هذا معناها من الناحية العقدية.
لكن اختلف في معناها من الناحية الفقهية، فقالت طائفة من أهل العلم: إنما نزلت هذه الآية في القبلة أول ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فقد كان بمكة يصلي قبل الركن اليماني فيستقبل البيت ويستقبل الشام معاً، فلما اتجه إلى المدينة اختلفا عليه، فكان الشام قبل الشمال والبيت جهة الجنوب، فتحير بينهما فأنزل الله تعالى هذه الآية فكان في ذاك تخييراً للقبلة، ثم نسخ هذا بتعيين البيت في قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:١٤٤] .
وقالت طائفة أخرى: بل المقصود بها: قبلة السائر الراكب في النافلة فإنه يصلي إلى أي اتجاه كان، وعلى هذا تكون محكمة غير منسوخة، والإحكام أولى من النسخ، وقد اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة بناء على هذا الخلاف في تفسيرها.
ووجه الله يطلق على ثلاثة معان: فالإطلاق الأول: بمعنى ذات الله سبحانه وتعالى، أي نفس الله سبحانه وتعالى، فيشمل نفسه وجميع صفاته، وهذا هو المذكور في قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦-٢٧] والمقصود: بقاء ذاته سبحانه وتعالى: والإطلاق الثاني: بمعنى السبيل فوجه الله بمعنى سبيله، والعرب يقولون: جاء فلان من هذا الوجه أو خرج في هذا الوجه أي: في هذا السبيل، وعلى هذا قولك: تصدق فلان لوجه الله، أي: في سبيل الله، وما أخرج لوجه الله معناه: في سبيل الله.
والإطلاق الثالث: بمعنى الصفة المخصوصة وهي المقصودة هنا، فهو إثبات صفة الوجه، وهي من الصفات التي سبق الكلام فيها والإشكال الذي جاء فيها، وذكرنا الحل ذكره ابن القيم والحل الذي ذكره ابن حجر، فالوجه صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى يجب الإيمان بها، ويجب مع ذلك الإيمان بأن وجهه لا يشبه وجوه المخلوقين تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وتنطبق على هذه الصفة القاعدتان السابقتان: أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض، وأن القول في الصفات كالقول في الذات.