وإثبات صفة السكوت أشار له الشيخ بقوله:(ورحمة سكت عن أشياء) فبين أن السكوت التشريعي إنما يكون على أساس علم ورحمة بعباده، فسكت عن أشياء لم يبين للناس الحكم فيها، وإنما أرجعهم فيها إلى تدبرهم وعقولهم واستنباطهم، وهذا من رحمته.
ولذلك حصل الخلاف فيها، ومن هنا قال بعض أهل العلم: الخلاف في مسائل الاجتهاد فسحة، والمقصود بكونه فسحة ورحمة من عند الله سبحانه وتعالى: أن المسائل الاجتهادية لو كانت كلها منصوصة نصاً؛ لوقع الناس في حرج، ومن هنا قال الشعراني في كتابه الميزان: إن الاختلافات الفقهية كلها خلافات صورية لا خلافات حقيقية؛ وذلك أن للشريعة حدين، أحدهما: حد العزيمة، والثاني: حد الرخص، وما بينهما متسع، فإذا وجدت مسألة اختلف فيها العلماء فقال بعضهم بإباحتها وقال طائفة أخرى بتحريمها، فاعلم أن الذي قال بالإباحة نزع إلى جهة الرخصة وأن الذي قال بالتحريم نزع إلى جهة العزيمة، وبهذا تكون الشريعة أصلاً واحدة، لكن مشارب الناس فيها وأفهامهم مختلفة.
ومن هنا فإن من اضطر للأخذ بقول من مسائل الخلاف فمن فقهه أن يأخذ بالأيسر، فإذا وقع الإنسان في ضائقة ومشكلة ووجد خلافاً بين أهل العلم في مسألة معينة -ولم يكن ذلك اتباعاً للهوى- فاختلافهم هنا رحمة بالنسبة إليه ليأخذ بالألطف والأرفق، وهذه المسألة بحثها الأصوليون كثيراً ولم تزل محتاجة إلى زيادة بحث.