قال الشيخ حفظه الله:[بقارئ في صوته أو حرفه كل وما لاق به من وصفه] جل الله أن نمثله بقارئ في صوته أو حرفه، فقارئ كلام الله ليس هو المتكلم الأول بالكلام، وليس كلامه كتكلم المتكلم الأول بالكلام، بل القارئ يتكلم على حسب حاله وما يليق به، والخالق كلامه على حسب ما يليق بجلاله وعظمته، فلا يمكن تمثيله به ولا تشبيه أي شيء من صفاته بشيء من صفات المخلوقين كما هو الحال في ذاته كما سبق؛ لذلك قال:(بقارئ في صوته أو حرفه كل وما لاق به من وصفه) كل من الخالق والمخلوق كما لاق به من وصفه، فصوت المخلوق وحرفه من صفات المخلوقين على ما يليق بهم، وصوت الله سبحانه وتعالى وكلامه على ما يليق بجلاله وعظمته.
[فنحن حين ننشد الآن قفا نبك وقد أودى بمنشيها العفا لسنا بمجتري هواء نفثه أو محدثين عين ما قد أحدثه] هذا مثال يبين الأمر جداً؛ فإذا كان الاختلاف بين كلام المخلوقين بهذه المنزلة، فكيف بالاختلاف بين كلام الخالق والمخلوق! فالمخلوقون يتكلمون وكلامهم متفاوت بشكل عجيب! فأصوات الفيل لا تشبه أصوات الإنسان، بل هي متنافية معه، وأصوات بعض الناس لا تشبه أصوات بعضهم، فبعض الناس خشن الصوت وبعضهم مليح الصوت، وبعضهم مرتفع الصوت وبعضهم منخفضه، وبعضهم رخيم الصوت وبعضهم أبح، فأنواع الناس في الكلام متباينة، وأصواتهم متفاوتة، وإذا كان المخلوق لا يشبه المخلوق في الصوت، فكيف يشبه بكلام الخالق سبحانه وتعالى أو بصوته؟! مثَّل هنا مثالاً فقال: من قرأ قصيدة قالها شاعر سابق، هل معناه أنه يأخذ الهواء الذي نفثه ذلك الشاعر، فيسكنه هو في رئته ثم يضغط عليه كما ضغط عليه الشاعر حتى يخرج الصوت كما هو؟!
الجواب
لا، فنحن حين ننشد الآن قصيدة امرئ القيس التي قالها قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة عام: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل لا نأخذ الهواء الذي نفثه ونعيده كما فعل هو ومعنى (أودى) : أهلك، (منشيها) أي: امرئ القيس الذي أنشأها، (العفاء) : وهو التغير والانعدام.
(لسنا بمجتري هواء نفثه) أي: حين ننشدها، فليس معنى أننا نحاكيه بإنشاده أن نأخذ الهواء الذي نفثه ونعيده نحن حتى نخرجه مرة أخرى كما أخرجه هو.
(أو محدثين عين ما قد أحدثه) أي: ولسنا أيضاً محدثين عين ما قد أحدثه هو بالضغط على نفس الطريقة كما ضغط هو.
[وذاك من كيفية إن صرفه ما بين حلق ولهاة وشفه](من كيفيةٍ إن صرفه) معناه: حين صرف ذلك الهواء (ما بين حلق ولهاة وشفه) : وهذه هي أصول مخارج الحروف، فإذا كان الفرق واضحاً فيما بيننا، فكيف يكون الفرق بين صفاتنا وصفات الخالق سبحانه وتعالى؟! ونحن نعلم أن ضرب الأمثلة لله سبحانه وتعالى منهي عنه بقول الله تعالى:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:٧٤] ، ولكن ضرب المثل المنهي عنه هو: القياس المثلي.
وأما قياس الأولى: فيجوز ضربه له؛ لأنه ضربه لنفسه في عدد من الآيات كقوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً}[الزمر:٢٩] ، وقال تعالى:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[النحل:٧١] فهذا يقتضي جواز هذا النوع من الأقيسة وهو قياس الأولى لا قياس المماثلة، فلذلك قال:(لا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ) ، فهذا ممنوع في قياس المماثلة، لكنه يجوز في قياس الأولى.
(ولا تصغوا لمن عطل أو من مثل)(لا تصغوا) من صغى بمعنى: مال، (لمن عطل) صفات الله أو أسماءه، ومعناه: نفى معانيها وجعلها ألفاظاً لا تدل على شيء، فهؤلاء هم المعطلة، (أو من مثل) وهم المشبهة الذين شبهوه بخلقه وضربوا له مثلاً على وجه المماثلة سواء صرحوا بذلك أو نفوه؛ لأن المعطلة أيضاً مشبهة من وجه آخر، فالمعطلة يشبهونه بالمعدومات، والممثلة يشبهونه بالموجودات، وكلا الأمرين فيه تشبيه في الواقع، لكن هؤلاء تشبيههم منفي، وهؤلاء تشبيههم مثبت، والجميع منهي عنه؛ فلذلك قال:(ولا تصغوا لمن عطل) فشبهه تشبيهاً بالنفي الذي ليس فيه أي تنزيه ولا أي إثبات لصفات الكمال، (أو من مثل) حيث شبهه بخلقه تعالى الله عن ذلك، فكلاهما زالق في هذا الباب.