[من أطلق عبارة (ذات الله) من القدماء فإنما يقصد سبيله أو ملته أو شرعته]
(أما من نسب ذاتاً له) أي: وقال: ذات الله، ومعناه: أضاف الذات إلى الله، والمقصود إذا كان ذلك في النص أو في كلام السلف مثل: سبيل الله، أو ملة الله، أو شريعة الله، لذلك قال:[..
أما من نسب ذاتاً له فقد عنى التي له ملته شرعته سبيله] أي: اعلموا أن ثم مضافاً إلى الله، أي: مملوكاً لله مثل ملته، أو شرعته، أو سبيله.
والملة والشريعة والشرعة معناها متقارب، لكن الملة: تطلق على ما يشمل الاعتقاد والعمل، والشريعة: تطلق على العمل، والشرعة: تطلق على العمل والأخلاق، فالملة تشمل الاعتقاد والعمل والأخلاق، والشريعة تشمل الأعمال فقط، يعني: أعمال التشريع فقط.
والشرعة: تشمل الأعمال والأخلاق دون الاعتقادات، ولهذا قال الله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً}[المائدة:٤٨] فشرعة الأنبياء مختلفة، ولكن عقيدتهم واحدة لقوله:{شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}[الشورى:١٣] وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ}[آل عمران:٩٥] فملته ما يشمل الجميع في الأصل إلا ما استثني من ذلك.
وليس معناه أن كل تشريع نزل على النبي صلى الله عليه وسلم كان موجوداً في ملة إبراهيم، بل هذه الشريعة أكمل من ملة إبراهيم بالكلية، إذ لا يمكن للبشرية أن ترجع إلى الوراء فتأخذ بتشريع قد أخذت به قديماً قبل نضجها، والبشرية لم تتكامل في زمان إبراهيم، بل خاضت بعد ذلك كثيراً من التجارب؛ ولهذا شرع لها كثير من الأديان بعد ذلك على مقتضى المراحل التي تمر بها، وإنما كملت البشرية في وقت النضج الحقيقي حين أرسل الله إليها محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الشريعة.
فمن هنا تشترك هذه الشريعة مع ملة إبراهيم في بعض الأمور، سواءً كان ذلك في التشريعات أو في الأخلاق، ففي باب الأخلاق: أخلاق إبراهيم مشروعة لهذه الأمة كالضيافة، وخصال الفطرة، وعدم العجلة والتأني، وعدم الدعاء على قومه والحلم عنهم، فهذه أخلاق إبراهيم وهي مشروعة لهذه الأمة، وقد أخذ بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ بدعاء نوح على قومه، ولا بدعاء هود، ولا بدعاء صالح، ولا بدعاء موسى.
وكذلك لم تكن هذه الأمة مطالبة بكثير من الإيغال في الروحانيات مثل ما طولب بذلك أصحاب عيسى، فكثير مما ورد عن عيسى عليه السلام من الأوصاف غير مطلوب من كل الناس في هذه الأمة، من مثل: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ونحو ذلك، فليس هذا مطلوباً من هذه الأمة، بل عندنا الميزان الوارد في سورة الشورى في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[الشورى:٣٩-٤٣] فهذا ميزان بين أن تصبر وتغفر أو أن تأخذ بحقك، وذلك أن كل واحدة منهما لها مقام، فمن المقامات ما ينبغي فيه الحلم وعدم المؤاخذة بالحق، ومن المقامات ما ينبغي فيه المؤاخذة بالحق وعدم التحلُّم كما قال الحكيم: وبعض الحلم عند الجهـ ـل للذلة إذعان أي: ذلة وليس حلماً حقيقاً.
وكذلك يقول أبو الطيب المتنبي: إذا قيل مهلاً قال للسلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جهل ولولا تولي نفسه حمل حلمه على الأرض لانهدت وناء بها الحمل ويقول أيضاً: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى (أما من نسب ذاتاً له فقد عنى التي له) : يقصد بذلك القدماء ولا يقصد به المتأخرين، فالمتأخرون يطلقون الذات ولا يقصدون هذا المعنى الذي ذكره، بل القدماء سواء كانوا من أهل الجاهلية أو من صدر الإسلام إذا أطلقوا ذات الله أو ذات الإله فإنما يقصدون بها ملته أو شرعته أو سبيله.