للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صفة الوضع وصفة القَدَم

وقوله: (يضع قدمه على جهنم) : هذه الجملة مثبتة لصفتين: صفة فعلية وصفة ذاتية مثل سابقتها، فالفعل يثبت صفة فعلية، والاسم يثبت صفة ذاتية، فقوله: (يضع) هذا إثبات لصفة الوضع، فهو (يضع قدمه على النار فينزوي بعضها على بعض وتقول: قط قط، أو قطني قطني) .

وقوله: (يضع قدمه على جهنم) ، هذا إثبات لصفة القدم لله سبحانه وتعالى.

(على جهنم) : وهو اسم من أسماء النار، واختلف فيه هل هو عربي أو أعجمي؟ فقيل: هو عربي، والنون التي فيه زائدة وأصله من التجهم وهو تغير الوجه، والمقصود بذلك أن من رآها استاء لها.

وقيل: هذا اللفظ عجمي وليس من ألفاظ العربية، وهذا الذي تميل إليه النفس.

والله سبحانه وتعالى قد تعهد للنار بملئها، وجاء في الحديث أنها: (إذا أمر ببعث النار يخرج إليها من كل ألف تسع مائه وتسعة وتسعون) وإذا أعلن ذلك وأعلنت تلك النتائج: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:٥٩] فهذا الوقت هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذلك {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:٢] لأن كثيراً من الناس في ذلك الوقت كما قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:٤٧] نسأل الله السلامة والعافية.

فإذا أعلنت هذه النتائج يحال بين الناس بحيلولة عجيبة: يضرب {بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:١٣] ومن أعظم ذلك الظلام الشديد الذي يأتي، فلا يستطيع أهل الكفر التقدم، ويستطيع أهل الإيمان ذلك بالنور الذي جعل الله في وجوههم وأبصارهم، فيتقدم أهل الإيمان ويبقى أهل الكفر في الحافرة، فإذا بقي أهل الكفر رأوا نور أهل الإيمان فقالوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:١٣] أي: انتظرونا حتى نستضئ بنوركم، وفي هذا الوقت يحال {بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:١٣] .

فإذا وردوا النار فإنه سيتفاوت دخولهم فيها بحسب الحساب، وبحسب مرورهم على الصراط، فالصراط إذا نصب على متن جهنم (فهو أحد من السيف، وأرق من الشعر, وعليه كلاليب كشوك السعدان، والناس يتفاوتون عليه بحسب أعمالهم: فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدوا، ومنهم من يمر كالرجل يزحف على مقعدته فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم) .

والمخدوش إنما يخدش من جسمه الجزء الذي يستحق النار كأن يكون نبت شيء من لحمه من حرام فالنار أولى به، فهذا لا يقع في النار ولكن يؤخذ اللحم الذي نبت من النار، تمسكه كلاليب الصراط فيسقط في النار، وهذا معنى المخدوش الذي أمسك فقطع شيء من لحمه أو أعضائه نسأل الله السلامة والعافية.

وفي هذا التفاوت يوجد جماعات كلما رمي فيها بجماعة استقبلهم من سبقهم: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} [الأعراف:٣٨] بدأ الحوار بينهم: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:٣٨] وحينئذٍ لا تزال النار تقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ، هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، هَلْ مِنْ مَزِيدٍ.

تريد زيادة، وذلك لإرعاب أهلها واتساعها نسأل الله السلامة والعافية، مع أن الله يضخم كل من وقع فيها، فيضخم جثته؛ لأنه ضمن للنار ملئها، فمقعد الكافر فيها كما بين مكة والمدينة، وضرس الكافر فيها كجبل أحد، ومع ذلك تقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) وهذا لإرعاب من يأتي، ولهذا قال الله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:١٢-١٤] نسأل الله السلامة والعافية.

فإذا كمل أهل النار ولم تكتف وهي تقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) فإن الباري سبحانه وتعالى يضع عليها قدمه، فتئط وينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قطني قطني أو قط قط؛ معناه: يكفيني يكفيني، وهذا فيه إثبات لصفتين: صفة الوضع وهي من صفات الأفعال، وصفة القدم وهي من صفات الذات.

<<  <  ج: ص:  >  >>